ديزنى لاند وقطار الإسكندرية! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ديزنى لاند وقطار الإسكندرية!

نشر فى : الإثنين 14 أغسطس 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الإثنين 14 أغسطس 2017 - 9:50 م
حينما تعلن وزيرة الاستثمار والتعاون الدولى عن اعتزام مصر إقامة مدينة ملاهٍ عالمية بتكلفة تصل إلى 2.5 مليار دولار، فإن أول ما يتبادر للذهن هو أولويات خطة الاستثمار العام أو حتى الخاص الذى تختص الدولة بتشجيعه ورسم خرائطه. وحينما يعقب هذا التصريح حادث بشع لاصطدام قطارى بورسعيد والإسكندرية بخورشيد، والذى أودى بحياة ما يزيد على أربعين شخصا وجرح العشرات، فإن سلسلة حوادث القطارات فى مصر تُستدعى سريعا من الذاكرة الحديثة، وتاريخ نشأة السكك الحديدية فى مصر كثانى دولة فى العالم بعد بريطانيا العظمى يُستدعى من ذاكرة تاريخ مصر الملكية.
الرابط بين ديزنى لاند مصر ــ والتى لا أعلم ما هى الحاجة الملحة لإنشائها فى ظل وجود ديزنى الأوروبية فى أشهر المقاصد السياحية لتعوض على سائحى العالم القديم بُعد مسافة ديزنى لوس انجلوس ــ وقطار الإسكندرية هو بدائل الإنفاق الحكومى وجذب استثمارات القطاع الخاص من جهة، وضوابط إدارة المخاطر التى يجب أن تتمتع بها خطوط السكك الحديدية ومدن الملاهى على السواء. 
الاستثمار الخاص الذى يمكن أن تجتذبه إعادة هيكلة السكك الحديدية وخصخصتها جزئيا من شأنه أن يراعى عناصر الأمن والسلامة وضوابط الحد من المخاطر، عطفا على أن يخضع فى إدارته لهذا المرفق الخطير لرقابة الدولة بمختلف أجهزتها، بعيدا عن الإدارة الحكومية الباهتة التى صدرت للعالم أسوأ صورة عن مصر، تلك التى يلتقط فيها المسعفون الصور بجوار الجثث والحطام! صورة بائسة مجردة من المهنية ناهيك عن الإنسانية بالطبع. استثمار يعود على الدولة بكثير من المزايا، ويشتبك مباشرة مع أبرز التحديات، تلك المتصلة بتراجع كفاءة البنية الأساسية. 
***
القيمة التى يضيفها هذا الاستثمار، والوفورات التى يمكن أن يحققها تتجاوز أى عائد من إقامة مدينة الملاهى، وتبلغ تكاليفه نحو 4% من تكلفة إنشاء تلك الملاهى (يقدر البعض تكاليف تطوير السكة الحديد فى مصر بنحو 100 مليون دولار فقط). 
الاستثمار الحكومى بدوره يجب أن يضع تطوير السكك الحديدية فى أولويات الإنفاق العام. شبكة الطرق البرية الجديدة مهمة، لكن تطوير مختلف الشبكات القائمة وصيانتها من العبث والسرقة والإهمال لا يقل أهمية. ليس معنى إقامة عاصمة إدارية جديدة أننا سوف نتخلى عن المدن القديمة! وليس معنى تطوير شبكات طرق برية معبدة، التخلى عن السكك الحديدية لأنها عالية التكلفة! 
أعمال البنية الأساسية وأبرزها شبكات الطرق المختلفة هى مهمة الحكومة الأولى لتيسير التجارة وحركة نقل الركاب والعاملين والبضائع. آلية عمل «اليد الخفية» لآدم سميث تتجلى فى تلك المهمة، كما تتجلى فى إعمال القوانين والرقابة وبسط السيادة بما يحفز مناخ التنافسية العادلة، ويدعو إلى زيادة النشاط الاقتصادى وحمايته، وليس احتكاره وإعاقته عن التطوير.
حماية النفس البشرية هى أعظم ما يمكن أن تستهدفه استراتيجيات التنمية المستدامة؛ فالإنسان هو وسيلة البناء وغايته. لو أن الأرواح التى تزهق فى كل حادث من حوادث الإهمال والفساد تقدم قرابين على مذابح الإصلاح والتطوير والمحاسبة الجادة لاختلف الأمر كثيرا. الكارثة الحقيقية هى أن شيئا لا يحدث فى أعقاب كل حادث!. تصريحات عنيفة وإقالة لبعض صغار المسئولين وربما سجن عامل التحويلة وسائق القطار.. كل ذلك ربما يمتص شيئا من الغضب الشعبى فى حينه، لكن معايير الأمن والسلامة تظل مفقودة فى رحلات تتوقف فيها حيوات الآلاف على العامل البشرى الصرف، الذى يفتقد الحد الأدنى من التأهيل المهنى والنفسى والتدريب فضلا عن الرقابة. ميكنة الإشارات ووسائل الاتصال وضوابط الرقابة، وضبط أزمنة التقاطر، وعمليات الصيانة، والأمن الصناعى ليست كماليات يمكن الاستغناء عنها عند إدارة مرفق مهم مثل السكك الحديدية، وتنمية هذا المرفق له أهمية فى دفع عجلة التنمية، وارتباطها الوثيق بتيسير النشاط الاقتصادى وخفض تكاليفه المختلفة، وفى مقدمتها تكلفة الدماء التى لا يمكن تقديرها ماديا. 
نقل البضائع ــ الذى أصبح حكرا على مقطورات «القتل العام» والقيادة المتهورة المصحوبة بتعاطى المخدرات على نطاق واسع ــ كانت السكك الحديدية أحد أهم بدائله الآمنة، وكذلك النقل النهرى الذى أهمل بدوره رغم استعداد الكثيرين تنميته وتطويره مع مراعاة جميع العوامل البيئية. إهمال بدائل النقل يصب فقط فى مصلحة محتكرى المقطورات والتريللات، كما يدمر الطرق ويزيد من ضريبة الدماء إلى ما يزيد على ١٣ ألف حالة وفاة سنويا بما يضع مصر على قمة الدول التى تعانى من وفيات حوادث الطرق. 
***
فى 8 مايو 2016 كتبت مقالا فى جريدة الشروق بعنوان: «المشروعات القومية والتهام السيولة» جاء فيه:
«قدمت حكومة جنوب إفريقيا برنامجا ضخما اختص بتطوير البنية الأساسية اعتبارا من عام 2013/2014 ولثلاث سنوات بقيمة 57 مليار دولار أمريكى. كما قدمت الحكومة البريطانية هى الأخرى خطة لتطوير البنية الأساسية بتنفيذ 600 مشروع بداية من عام 2016 وحتى 2021 بقيمة 480 مليار جنيه استرلينى، ينفق منها حتى عام 2021 نحو 290 مليارا. لكن هذه المشروعات تم دراستها فى ضوء قدرات وبدائل التمويل وسبل اجتذاب الاستثمار الخاص وأولويات الاستثمار. هيكل تمويل مشروعات البنية الأساسية يصلح نموذجا للوقوف على المزيج التمويلى الأنسب لمشروعاتنا، ففى بريطانيا حصة المال الخاص فى تمويل المشروعات المزمع إقامتها لا تتجاوز 50% على الرغم من تقدم أساليب التسويق وتنوع أدوات التمويل. مشروعات النقل المخطط إقامتها وفقا للخطة البريطانية سوف تمول بنسبة 85% بمال عام بينما نصيب المال العام فى مشروعات الطاقة 5% فقط (National Infrastructure Delivery Plan 2016–2021). لم أجد هذا المزيج واضحا فى مشروعات البيان الحكومى، ولم أجده قريبا من مستوى الدقة أو التفصيل الذى توفره خطة الحكومة البريطانية وتتيحه للكافة.
تحتاج مصر إلى تطوير البنية الأساسية من شبكات مياه ورى وصرف إلى جانب شبكات الكهرباء والطرق التى توليها الحكومة عناية خاصة، لكنها تركز على تطوير الطرق السريعة، دون عناية تذكر بنظم الأمن والسلامة على الطرق القائمة والتى تقتل قرابة 12 ألف نفس سنويا، ناهيك عن الطرق المخططة. تطوير البنية الأساسية للنقل يجب أن يأخذ فى الاعتبار تطوير ومد خطوط السكك الحديدية كبديل رئيس لنقل البضائع والأفراد، كما يجب ألا يغفل أهم عنصر فى التنمية والمستهدف بها وهو الإنسان الذى تأتى سلامته قبل أى شىء فى قرارات صانع السياسة بالدول المتقدمة. 
أزمات كثيرة تعصف بالوطن، حرائق متعددة، حوادث طرق أرضية وجوية، هجمات إرهابية، هزات اقتصادية عنيفة.. كلها تضرب بغير سابق إنذار، لأن آلية الكشف عن المخاطر وإدارتها قبل أن تتحول إلى أزمات غائبة فى أغلب المواقع.
***
تعميم ضوابط إدارة المخاطر المؤسسية على مختلف مؤسسات ومرافق الدولة أضحى ضروريا، لأن إدارة الخطر أكفأ وأقل تكلفة من إدارة الأزمة. 
ضوابط إدارة المخاطر متى كانت أقل اعتمادا على العنصر البشرى، وقادرة على التنبؤ بمصادر الخطر وتداعياته باستخدام مؤشرات الخطر الأساسية Key Risk Indicators (KRIs) كلما كان من المستبعد تكرار حوادث القطارات، ووقوع هذا العدد من الضحايا فى كل حادث. وعلى الرغم من حالة التأهب التقليدية التى تعقب حوادث النقل والتى تحول فى الغالب دون وقوع حوادث جديدة لفترة ما، فوجئت وأنا أكتب هذه السطور بحريق فى قطار العياط ترتب عليه قيام الركاب بالقفز من النوافذ فرارا بأرواحهم! معدل تكرار الحوادث يكشف عن تراجع عناصر الأمن والسلامة إلى مستويات مقلقة للغاية. تأخر القطارات كلها لساعات طويلة عن جدولها يكشف عن إدارة فاشلة للمرفق كله. 
الحكومة كلها مسئولة عن هذا الارتباك. كارثة حادث الاسكندرية الدموى تعكس أزمة فى التخطيط والمتابعة، وأولويات الاستثمار، والتنمية المحلية، والنقل، والإسعاف والرعاية الصحية، فضلا عن إدارة المخاطر والأزمات.

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات