تصدير الأبناء! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 8:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تصدير الأبناء!

نشر فى : الإثنين 15 يناير 2024 - 6:55 م | آخر تحديث : الإثنين 15 يناير 2024 - 6:55 م

لا أكاد أسأل أحدا من الأصدقاء عن ابنه أو ابنته، إلا علمت أنهما فى مكان ما عبر الحدود، إما لتلقى العلم ونيل شهادة فاخرة، أو للهجرة والعمل فى الخارج براتب بالعملة الصعبة.. البيوت فى محيط معارفى تبدو فارغة كئيبة، تحن إلى الصغار الذين غادروها إلى أجل لا يعلمه إلا الله. يتجرع مرارة الفراق والغربة الأبوان، بينما يتلهى الأبناء قليلا فى خوض تجارب جديدة، يدركون بعد فوات سكراتها أنهم فقدوا الكثير مما لا تعوضه الشهادات والمراتب.
لم تكن تلك الظاهرة قد تفشت فى البيوت المصرية حتى سنوات قريبة، صار استيراد خدمات التعليم من الغرب عبئا كبيرا على موارد البلاد من النقد الأجنبى، وصارت منظومة التعليم الجامعى فى مصر طاردة للطلاب إلا فى القليل من الكليات ذات التصنيف العالمى المتميز.. المشكلة الأكبر تكمن فى أن نوعية التعليم الذى يتلقاه هؤلاء الأبناء فى الخارج، ودرجة الاحتكاك بأسواق العمل كمتدربين أثناء فترة الدراسة، تجعل من الصعب عليهم العودة لمزاحمة المنتج التعليمى المحلى، على فرص عمل غير مناسبة، نظير رواتب غير مجزية، خاصة إذا ما قورنت اليوم بأى راتب فى الخارج بالعملة الصعبة، وبعد تراجع الجنيه المصرى إلى مستويات غير مسبوقة.
وكأين من أسرة خلت أخشى أن يأتى اليوم الذى يتعين على فيه إرسال ولدى إلى جامعة أوروبية أو أمريكية لتلقى العلم، كى لا يتوقف طموحهما عند ما هو متاح فى السوق المحلية من تعليم وفرص عمل منخفضة التنافسية. التكلفة أكبر مما يظن الكثيرون، فهى تتخطى تكاليف السفر والإقامة ومصاريف الجامعة التى يجب سدادها بالدولار أو اليورو على ندرتيهما.. التكلفة تتحملها الأسرة أولا من مرارة الشعور بالغربة والفراق، وتتعدى إلى الوطن كله الذى ربما يكسب بعض الدولارات من تحويل عامليه فى الخارج، إن هم استقروا هناك بعد نيل الشهادة، لكنه بكل تأكيد يخسر إنتاجية هؤلاء المهاجرين إلى الأبد، وهى فرصة بديلة باهظة الثمن..
• • •
يظن البعض أن تصدير خدمات العمل، بأى شروط وبأى كيفية، يحقق أهدافا اقتصادية مرجوة، وهو استنتاج منقوص، يغفل ما تخسره البلاد من عملية تصدير أو تسرب العقول النابهة إلى الخارج brain drain. مثل ذلك التصدير لخدمات العمل، كمثل أى نوع آخر من التصدير السلعى أو الخدمى، لا يكون مفيدا إلا لو كانت البلاد المصدرة تحقق قدرا من الاكتفاء الذاتى من السلعة أو الخدمة المصدرة. الواقع فى مصر اليوم خلاف ذلك، فمصر تعانى نقصا شديدا فى المهارات المؤهلة للقيادة والإبداع. هذا النقص يأتى فى سياق رغبة ملحة فى تحقيق معدلات نمو مرتفعة مستدامة، وتنمية شاملة، تنتقل معها الدولة من موقعها بين دول العالم الثالث، إلى الأسواق الناشئة الأوفر حظا، كمرحلة أولى، ثم إلى دولة الرفاهة الجاذبة للسكان من مختلف البقاع.
وتقدر إحدى الدراسات (عبدالباقى 2009) إجمالى خسائر هجرة العقول المصرية خلال الفترة من عام 1998 إلى عام 2007 بنحو 12 مليار جنيه مصرى فى عام 1998، صعدت تلك الخسائر إلى 20,4 مليار جنيه فى عام 2004 ثم 30,7 مليار جنيه عام 2007. فى حين سجلت الإيرادات الناتجة عن تلك الهجرة ما قيمته 5,8 و9,7 و14,6 مليار جنيه مصرى فى نفس السنوات على التوالى والترتيب. أى أن الخسائر الناتجة عن هجرة العقول النابهة كانت دائما أكبر من مثلى قيمة المكاسب. إن التحديات التى تؤثر على مصر فى مواجهة هجرة العقول وإقامة المصريين المؤهلين فى مختلف الدول المتقدمة، هى تحديات بارزة وجوهرية، خاصة فى ضوء الحاجة إلى تحقيق أهداف الإصلاح الاقتصادى والتنمية الاجتماعية، وحال صعوبة التواصل مع تلك العقول وجذبها مجددا للإثمار داخل الحدود.
• • •
عملية الفرز المستمرة التى تنتقى أنبه العقول للعمل والإقامة والهجرة فى الدول المتقدمة، على حساب تفجير تلك الطاقات فى مصر، تكلف البلاد الكثير من الفرص الضائعة، التى يصعب حصرها بشكل دقيق. تمتد عمليات الفرز لتشمل اختيار فئات عمرية صغيرة، يسهل فصلها عن وطنها الأم، وتشكيل انتمائها للدولة الحاضنة التى توفر الإمكانات والاستثمارات المناسبة فى تطوير قدرات تلك الفئات. وقد كان لانتشار عمليات التجنيس والهجرة فى الوسط الرياضى للمحترفين المصريين فى بعض اللعبات الرياضية، أثر عميق فى المجتمع، كاشفا عن أزمة مربكة فى تفسير مفهوم الانتماء، بعد جعله مقابلا مباشرا لما يمنحه الوطن من مزايا مادية لأبنائه! هذا الفهم البرجماتى أحد تجليات السياسة الواقعية، التى تسود فى كثير من المواقع فى مصر بعد ثورتيها الأخيرتين.
وفقا للهرم السكانى المصرى، تقل أعمار ما يقرب من 33% من السكان المصريين عن 14 عاما، مقابل 25% ينتمون إلى الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاما، ونحو 15% فى الفئة العمرية من 30 إلى 39 عاما. يدل هذا على التحول فى طبيعة تضخم عدد السكان فى مصر مع انخفاض فى تمثيل الشباب (الفئة العمرية 15ــ29 عاما) وزيادة طفيفة فى تمثيل الفئة العمرية الأكبر سنا نسبيا (30ــ39 عاما). ومن شأن وجود نسبة كبيرة من السكان فى سن العمل أن يتيح للدول تحقيق عائدها الديموغرافى، فقط عندما يتم الاستثمار فى رأس المال البشرى بصورة مناسبة.
• • •
يذكر السيد رئيس الجمهورية فى أحد المؤتمرات التى عقدت أخيرا، أن اختبارا أجرى على آلاف الخريجين من الجامعات المصرية، لم ينجح فيه لنيل منحة ممولة إلا عشرات قليلة، فى إشارة مؤلمة إلى تراجع المستوى التعليمى فى مصر، وعدم مواكبته لاحتياجات السوق العالمية والمحلية. لكنها أيضا إشارة دالة على ندرة المؤهلين فى بلادنا، والضرر البالغ الذى من المتوقع أن تعانيه مصر إن هى فرطت فى تلك العقول النادرة، وتركتها فريسة للهجرة الخارجية.
كان أبى ــ رحمه الله ــ يرغب عن أى فرصة عمل فى الخارج مهما كان عائدها، إذ كان يعرف للغربة ثمنا يجهله اليوم ملايين الشباب. كان أحدنا تحدثه نفسه بأن العمل فى الخارج أفضل من نظيره فى مصر، فما يكاد يفصح عن ذلك تلميحا حتى يزجره أبوه متسائلا عن قيمة أى مجد يحققه خارج وطنه، حتى المجد الشخصى يذهب سدى إن لم يكن أقرب الناس شهودا عليه. أعرف أن هذه النظرة الرومانسية المثالية لا تروج لها سوق اليوم فى ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وما يمكن أن تصنعه بمشاعر الانتماء والوطنية. لكن النظرة الواقعية أيضا تضعنا أمام حقيقة صادمة، وهى أنه وفقا للمجموعات العلمية الرئيسة للمهاجرين، فإن نحو ٥٠ بالمائة منهم ينتمون إلى المتخصصين فى المجالات العلمية والتطبيقية، ومن المؤكد أنهم كانوا سيضطلعون بدور حيوى فى عملية التنمية، وإن خسارتهم لا يمكن أن تعوض أو تستبدل بأى خدمات محلية متواضعة الكفاءة أو حتى كفاءات مستوردة خالية من أى انتماء، كما لا يمكن أن تستبدل المرتزقة بالجيوش الوطنية.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات