حرائق الدم - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الإثنين 9 ديسمبر 2024 12:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حرائق الدم

نشر فى : الإثنين 19 ديسمبر 2011 - 9:40 ص | آخر تحديث : الإثنين 19 ديسمبر 2011 - 9:40 ص

لا تضارع نكبة حرق المجمع العلمى المصرى سوى نكبة ثقافية أخرى جرت وقائعها قبل أربعة عقود بحرق دار الأوبرا فى مطلع السبعينيات. كان حرق الأوبرا نذيرا بتجريف الثقافة المصرية، وحرق المجمع العلمى ــ فى احوال فوضى تسببت فيها حمامات الدم فى شارع مجلس الشعب ــ نذيرا آخر بتجريف أخطر وأفدح للذاكرة الوطنية.

 

خسرنا نحو (١٩٢) ألف كتاب ووثيقة وخريطة ومخطوطة، من بينها المخطوطة الأصلية لموسوعة «وصف مصر»، أهم الإنجازات العلمية للحملة الفرنسية.

 

أحرقت كنوزا ثقافية لا تعوض ولا تقدر بثمن. اعتلت جماعات من البلطجية ــ بجوار جنود من القوات المسلحة ــ أسطح مجلس الشعب، وأسطح البنايات المجاورة، ومن بينها المجمع العلمى، وأفلت العيار تماما، وجرت الجريمة المروعة وسط تراشق زجاجات المولوتوف، وهى جريمة لا تسقط بالتقادم، جريمة ضد التاريخ، وجريمة ضد الحضارة، وهى ترادف همجية القتل العشوائى لمتظاهرين سلميين، وهذه جريمة ضد الإنسانية.

 

 أحداث متعارضة تزامنت فى مواقيتها.. وأجواء عصبية تنذر بانهيارات أكبر وأفدح.

 

طغت رائحة الدم المسفوك فى شارع مجلس الشعب على أجواء فرز صناديق الاقتراع فى الجولة الثانية من الانتخابات النيابية.

 

لوهلة بدا أن المستقبل المصرى معلق على تفاعلات الحوادث وتداعياتها فى شارع مجلس الشعب أكثر مما هو معلق على توازنات اللعبة الانتخابية لمقاعد المجلس نفسه.

 

خالطت أصوات الرصاص الحى ومشاهد الدماء على الأسفلت وقائع فرز الأصوات الانتخابية. المشهد أقرب إلى عرس دم، لا احتفال فيه بالديمقراطية ولا ثقة معه فى المستقبل.

 

بدا فى حوادث شارع مجلس الشعب أن دماء أخرى قد تسفك، وأن حوادث مماثلة قد تتكرر.. فهذا الحادث الدموى يشبه فى وقائعه وتداعياته موقعة شارع محمد محمود.. اعتصام محدود أعقبه عدوان وحشى على المعتصمين بلا مبرر ولا داعٍ. كان ممكنا ويسيرا فى موقعة محمد محمود الاستجابة لمطالب إنسانية ومشروعة من مصابى الثورة، وإنهاء الاعتصام بالوسائل السياسية. وكان ممكنا ويسيرا أيضا فى حادث شارع مجلس الشعب تجنب الصدام، وإنهاء الاعتصام بالوسائل السياسية نفسها، وعودة مجلس الوزراء للاجتماع فى مقره الرسمى، دون حاجة إلى إزاحة المعتصمين إلى المستشفيات بوجبات «حواوشى فاسدة»، وهى تهمة خطيرة أكدتها أحداث اليوم التالى بالعدوان الهمجى عليهم، وقتل تسعة مواطنين سلميين برصاص نافذ فى الصدر والرأس حسب بيانات موثوقة من مستشفى قصر العينى، أحدهم الشيخ «عماد عفت»، وهو شخصية دينية جليلة يتقلد منصبا رفيعا فى دار الإفتاء المصرية، ربما يكون قد حضر إلى ميدان النزال للتضامن مع الشباب الغاضب، أو لتخفيض الاحتقان والفصل بين القوات وإعلان هدنة على النمط الذى قام به شيوخ الأزهر فى موقعة محمد محمود، وكلها مصطلحات عسكرية لا أزهرية، تسبب فى وقائعها المجلس العسكرى، وذهب ضحيتها مع الأزهرى الجليل شباب من جيل جديد تصور أنه على موعد مع القدر فكان على موعد مع الغدر.

 

أصيب فى عرس الدم مئات المتظاهرين بجروح خطيرة، وضرب عشرات الناشطين السياسيين بقسوة ووحشية. شاهد العالم كله تلك الوقائع الدموية مسجلة بالصوت والصورة.. ولكن بيان «المجلس العسكرى» أنكر استخدام العنف أصلا، وهى حالة نكران تخاصم الوقائع المصورة، وتجافى الحقيقة فى ميادين النزال. ولا يصح أصلا معالجة الأزمات السياسية بمثل تلك الطرق البدائية، التى وصلت فى نكرانها للوقائع المشهودة إلى حد أن رئيس الحكومة الدكتور «كمال الجنزورى» استخدم عبارة: «ما يسمى بالعنف».. كأنه لم يكن هناك عنف، أو شبه عنف، أو شبهة تورط فى عنف، بينما العالم كله يرى ويشاهد الصور المشينة.

 

تضاربت بيانات المجالس الثلاثة «العسكرى» و«الوزارى» و«الاستشارى» بصورة تدعو للتساؤل حول مستقبل الأخير وجدوى استمراره، فالمجلسان الأولان فى حالة إنكار تام لأى تورط فى الأحداث الدموية، بينما الثالث يطالب الأول بوقف العنف والاعتذار.. وهو احتمال مستبعد مع إصرار «العسكرى» على أنه لم يستخدم العنف، ولا فكر فى استخدام العنف، وأنه معتد عليه، وأن الضحايا قد سقطوا بتدخل طرف ثالث.. وهى نظرية جاهزة لغسل الأيدى من دماء الضحايا، وتكرر استخدامها فى موقعتى «ماسبيرو» و«محمد محمود»، وحوادث أخرى أقل دموية، دون أن تضع السلطات الرسمية فى كل مرة تستخدم فيها هذه النظرية قبضتها على هذا الطرف الثالث المتهم بمحاولة الوقيعة بين الشعب والجيش، ولم تشر إلى أسماء وجهات بعينها. وهو ما يطرح علامات استفهام وتعجب حول مسار الأحداث وأسبابها الحقيقية.

 

هناك فرضيتان فى تفسير ما جرى فى شارع مجلس الشعب. أولاهما، أن هناك سوء أداء فادح وقلة كفاءة باهظة التكاليف فى معالجة الأزمات تصورت أن إنهاكا شديدا حل بالمعتصمين، وأن استخدام شىء من القوة يمكن أن يفض الاعتصام بسهولة، وإعادة هيبة الدولة، بما يمكن حكومة الدكتور «الجنزورى» من عقد اجتماعاتها فى مبنى مجلس الوزراء.. وهو ما لم يحدث، وتضررت هيبة الدولة بصورة أفدح، وكادت تهوى بين أكوام الطوب والحجارة.

 

وهكذا تحول حادث عارض لمجموعة من الشباب يلعبون كرة القدم لقتل الوقت فى ليلة شتوية أمام خيام الاعتصام إلى موقعة دموية. كان يمكن إعادة الكرة التى سقطت خلف بوابات مجلس الوزراء بسلام، إذا كانت هناك تعليمات تقضى بتجنب الصدام تحت أى ظرف مع المعتصمين، وعدم الاعتداء عليهم ولو باللفظ حسب تأكيدات رئيس الحكومة الذى يقال إنه لديه الصلاحيات التنفيذية لرئيس الجمهورية.. وهى صلاحيات ثبت عمليا أنها خيالات على ورق صدر بها مرسوم بقانون، فالسلطة تتبع القوة.

 

لم تكن هناك تعليمات لها صفة الإلزام، وجرى استدراج أحد الشبان إلى داخل مجلس الوزراء بدعوى استعادة الكرة، وضرب بقسوة لنحو ساعة كاملة قبل إعادته للمعتصمين الغاضبين.. إنها دعوة صريحة لتبادل العنف لتسويغ فض الاعتصام بالقوة، كأنهم لم يتعلموا شيئا من درس شارع محمد محمود، فالأعداد المحدودة تكاثرت بقوة النداء العام لإنقاذ المعتصمين من السحل والقتل فى شارع مجلس الشعب.

 

وثانيهما، أن ما جرى مقصود لإثارة الفوضى ودفع البلاد إلى سيناريوهات الانقضاض على الديمقراطية. الاتهام هنا موجه للمجلس العسكرى، وهو اتهام شائع فى الشارع المصرى، ومرده الحقيقى أنه لا توجد خريطة طريق للمرحلة الانتقالية تصون الثورة والدولة معا وتقود الخطى إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، غير أن العسكرى يوجه الاتهام ذاته إلى طرف ثالث غامض ومجهول.. وهناك واقعة محددة تستحق تقصى حقائقها، فهى كاشفة لما جرى، أو ما قد يجرى فى مواجهات تالية. الواقعة شاهد صورها العالم.. أشخاص يعتلون أسطح مجلس الشعب، بعضهم بزى عسكرى، يقذفون المتظاهرين الغاضبين بالحجارة.. وكانت المفارقة اللاذعة أن المجلس العسكرى أعلن أنه لا صلة له بمن يقفون فوق تلك الأسطح، وأن طرفا ثالثا يدفع للوقيعة بين الجيش وشعبه. وهذه حجة لا يمكن قبولها، فالقبول بها أقرب إلى العته العقلى، فقوات عسكرية تسيطر تماما على المبنى النيابى، والدخول إليه والخروج منه يخضع لإجراءات مشددة، ومن العيب أن يقال إن الذين صعدوا إلى أسطح المبنى وصلوا هكذا دون أن يمروا على تلك الإجراءات الأمنية، كأنهم هبطوا من السماء، والتقط بعضهم ملابس عسكرية ارتدوها أثناء هبوطهم فوق البناية!

 

كان يمكن لقوات التأمين العسكرية بحكم سيطرتها الكاملة على المبنى أن تقبض على هذه العناصر وتكشف هوياتها الحقيقة، وتسقط مؤامرة الوقيعة بين الشعب والجيش، ولكنها لم تفعل، ولم يتوقف فى الوقت نفسه العسكرى عن تبنى نظرية الطرف الثالث المجهول. وهذا بذاته دليل إدانة يطرح تساؤلات مقلقة حول مستقبل البلد. وأدت إدارة الأزمة على هذا النحو العشوائى والعنيف، والافتقار إلى الحد الأدنى من المسئولية، إلى حرق المجمع العلمى، وربما تتبعه حرائق أخرى.

 

لا أحد بوسعه ــ فى هذه الأجواء ــ أن يجزم بأن السلطة سوف تنتقل إلى جهات مدنية منتخبة بيسر ورشاقة عرض باليه روسى فى مسرح البولشوى! فلا المجلس العسكرى سوف يسلمها على «ورق سركى» لمكتب الإرشاد، ولا الأخير مستعد لتقبل فكرة الصدام، قد يلوح بأوراقها ولكنه يتحسب نتائجها. والأجواء الانتخابية تلاحقها الطعون والمشاحنات والمخاوف على مستقبل الدولة المدنية بعد صعود الإسلاميين الكبير فى صناديق الاقتراع، وهى أجواء تنفى صفة العرس عن الانتخابات، فالانتخابات بلا قواعد دستورية تحكمها قد تفضى إلى مخاطر الانقضاض على نتائجها. وهناك من هو متأهب لمثل هذا الخيار الأخير، الذى قد يشجع عليه ويدفع إليه عبارات وتصرفات منفلتة من بعض السلفيين، كأن توصف جامعة القاهرة درة التاج فى النهضة المصرية الحديثة بأنها أنشئت لمحاربة الإسلام والشريعة الإسلامية، أو توهم الانقلاب من تحت قبة البرلمان على الدولة المدنية وإعلان إمارة إسلامية على نمط طالبان!

 

فى حوادث شارع مجلس الشعب تحضر روح التمرد، التى تذكرنا بأنه كانت هناك ثورة دفعت ثمنا باهظا من دماء المصريين لإطاحة رأس النظام السابق، وأن هذه الثورة توشك أن تنتكس وتذهب غنائمها لغير أصحابها، وهذه الروح المتمردة تبقى على جذوة الثورة تحت رماد التجاهل والإقصاء. إنها الثورة إذن لا الصراع على السلطة. إنها الأهداف لا الغنائم، وهذه القوة المعنوية، رغم عبارات كثيرة من الاستخفاف والتهكم على الشباب الغاضب، لها كلمة حاسمة فى نهاية الصراع، فلن تستقر السلطة لأحد ما لم توافق القوى الحية فى المجتمع على تسلمه أمانة حكم البلاد، والجيل الجديد فى قلب القرار المصيرى.

 

فى الحوادث الدموية أمام البرلمان يطرح سؤال الشرعية نفسه بإلحاح، فالشرعية الثورية يفترض أنها وحدها التى تحكم المشهد الانتقالى كله، ولكنها أقصيت بقسوة، وصممت خريطة طريق انتقالية طويلة ومجهدة.. أجريت انتخابات، لكنها لن تسفر لشهور طويلة عن معادلات توازن جديدة، فالمجلس النيابى وفق الإعلان الدستورى شبه منزوع الصلاحية حتى نهاية المرحلة الانتقالية.. وهكذا تجد مصر نفسها بلا شرعية ثورية تحمى أهداف ثورتها ولا شرعية دستورية تصون دولتها الحديثة.

 

فى فراغ الشرعية تبدو الحوادث المتدافعة فى شارع مجلس الشعب أكثر أهمية من نتائج الانتخابات النيابية.. فالانتخابات بمفردها لا تؤسس لشرعية جديدة. ما يؤسس لهذه الشرعية التوافق الوطنى على دستور جديد يحصن الحريات العامة والدولة المدنية ويصون هوية البلد العربية والإسلامية ويحفظ حقوق مواطنيها الأقباط ويضمن العدالة الاجتماعية.. وهذه كلها قضايا اتفاق لا شقاق، وإذا ما جرى الشقاق حولها فإن مشاهد المسرح السياسى مرعبة حقا، وحرائق الدم سوف تجرف فى طريقها المستقبل نفسه.