الديمقراطية والسلطوية وما بينهما - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الديمقراطية والسلطوية وما بينهما

نشر فى : السبت 24 مارس 2018 - 10:15 م | آخر تحديث : السبت 24 مارس 2018 - 10:15 م

 واقع الأمر هو أنه لا يوجد نموذج واحد لا للديمقراطية ولا للسلطوية، وإنما مؤسسات ثم خصائص تَتَميَزُ بها تلك وتتصِفُ بها هذه. مؤسسات الحكم ووظائف كل منها أى سلطاتها، والفصل بينها، كما ترد مكتوبة فى الدساتير تكاد تكون واحدة. غير المكتوب أهم من المكتوب وهو يتعلق بكيفية ممارسة المؤسسات لوظائفها فعلا، فالممارسة هى التى تبين إن كان الفصل بين السلطات فعليا وإن كانت كل من مؤسسات الحكم تحترم حقا الحدود المرسومة لسلطتها. كيفية الممارسة تكشف عن خصائص كل من الديمقراطية والسلطوية. «النموذج المثالى» مفهوم ابتدعه عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر لكى يجعله الحالة المطلقة لأى ظاهرة اجتماعية، تَجمَعُ فيه هذه الظاهرة كل الخصائص المفترضة فيها. «النموذج المثالى» للديمقراطية يجمع خصائص تمثيل السيادة الشعبية، واختيار الحكام فى انتخابات تنافسية، والانتخابات الحرة والنزيهة، والمشاركة الشعبية فى العملية السياسية، وتوفر المعلومات الموثوق بها، وحكم الأغلبية واحترام حقوق الأقلية، وسياسات فعالة كفء تُعَبِّر عن رغبات الناس وتحقق مصالحهم، والمساواة بين المواطنين، وحماية حرياتهم. «النموذج المثالى» لا يتحقق كاملا قط. النموذج يصبح ديمقراطيا إن اجتمعت فيه كل أو غالبية الخصائص المذكورة بنسب معقولة ومقبولة طواعية لدى المواطنين. «النموذج المثالى» للسلطوية هو عكس كل ذلك ويمكن أن يضاف إلى انعدام حريات المواطنين ممارسة الضغوط المعنوية أو الجسدية عليهم، أو بعبارة أخرى ممارسة التعذيب المعنوى أو الجسدى فى حقهم، لإرغامهم على السكوت على انعدام الخصائص الديمقراطية بل وربما على تمجيد السلطوية. من الواضح أن هذا «النموذج المثالى» للسلطوية ليس موجودا فى الواقع بدوره. انتفاء العدد الأكبر من خصائص الديمقراطية وبنسب كبيرة هو الذى يؤدى إلى نعت نظام ما بالسلطوية. ولكن عددا من الخصائص المذكورة للديمقراطية لا بد موجود فى النظم السلطوية، فهى مثلا وبدرجات متفاوتة قد تحمى الملكية الفردية، وقد تنفذ سياسات تحقق للناس بعض مصالحهم. هذه الخاصية الأخيرة بالذات هى المبرر الأول الذى تستند إليه النظم السلطوية باستمرار لإنكار الخصائص الأخرى للديمقراطية مثل الانتخابات التنافسية والحرة والنزيهة، وتوفر المعلومات، واحترام حقوق الأقليات، وحماية الحريات. تنفيذ سياسات تحقق مصالح الناس كان أيضا الأساس لما أطلق عليه «صفقة السلطوية» التى وسمت البلدان العربية غير النفطية تحديدا ومنها مصر مبارك وما قبله، وهى مفهوم يعنى أن النظم الحاكمة فى هذه البلدان العربية قد قايضت بعض المزايا الاقتصادية والاجتماعية بالحريات السياسية، أى أنها مثلا وفرت التعليم المجانى وسلعا أساسية بأسعار مدعومة ومساكن بإيجارات معقولة فى مقابل قبول الناس بالقيود على الحياة السياسية وعلى حرية اشتراكهم فيها بالأشكال التى يرونها.

***

التفاوت فى درجة الديمقراطية فيما بين النظم الديمقراطية وفى درجة السلطوية بين النظم السلطوية واضح، يصعب إنكاره. هل تستوى الديمقراطية فى دول شمال أوروبا حيث ترتفع نسب المشاركة فى الانتخابات وفى الولايات المتحدة حيث تنخفض نسب المشاركة وتتحايل بعض الولايات «قانونيا» للحيلولة دون أن يمارس الملونون من سود ومواطنين من أصول لاتينية حقوقهم فى التصويت؟ فى الولايات المتحدة تتراجع خصائص الديمقراطية منذ ما قبل الرئيس دونالد ترامب، ثم خاصة فى عهده، حتى أفرد اثنان من علماء السياسة الأمريكيين من جامعة هارفارد كتابا لها أعطياه عنوان «كيف تموت الديمقراطيات». وهل الديمقراطية فى البرازيل التى أطيح برئيستها المنتخبة ديمقراطيا لأسباب يوجد اتفاق عام على أنها واهية مثلها فى جنوب إفريقيا حيث أرغم رئيسها على الاستقالة بسبب الفساد وغيره من أشكال إساءة الحكم؟ وهل السلطوية فى فنزويلا الحالية حيث تضطر السلطة الحاكمة إلى ادعاء اللجوء إلى بعض اجراءات الديمقراطية بعد تشويهها مثلها فى كوريا الشمالية حيث الحكم بالوراثة أبا عن جد وحيث الانعزال عن العالم شبه تام؟ وهل كانت السلطوية فى تونس بن على حيث للاتحاد العام التونسى للشغل وزنه التاريخى مثلها فى ليبيا القذافى حيث اختلطت فوضى اللجان الشعبية بالمزاجية والعشائرية؟ على الرغم من هذه التباينات فإنه لا خلاف يذكر على أن تلك الدول كلها ديمقراطيات وهذه الأخيرة سلطويات.

***

المعضلة تنشأ عندما يثور الخلاف حول ما إذا كان هذا النظام أو ذاك ديمقراطية أو سلطوية. من هنا نشأت مفاهيم لأنظمة تقع فيما بينهما مثل السلطوية التنافسية، والديمقراطية غير الليبرالية، والديمقراطية الجزئية، والنظام الهجين. فى مثل هذا النظام بعض خصائص الديمقراطية ولكن لا يمكن اعتباره ديمقراطيا، ففيما وراء الخصائص، يوجد شرطان لكى يصبح نظام ما ديمقراطيا، الأول هو قبول شرعية الآخر واعتباره خصما وليس عدوا أو خائنا تُعتَبَرُ مواقفه أو آراؤه خطرا وجوديا على النظام السياسى. يلاحظ نظريا أن السلطويين فى كل مكان يستندون إلى الأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية، والحروب، والتمرد المسلح، والإرهاب لاعتبار الآخر غير المتفق معهم عدوا أو خائنا. أما الشرط الثانى فهو ضبط النفس والتسامح فلا تستخدم الأغلبية أدوات القانون مثلا لإلغاء التنافس منتهكة بذلك روح القانون وإن كانت تصرفت فى حدود نصه. الشرطان غير موجودين إطلاقا فى النظم السلطوية وهما غير مكتملين فى الأنظمة الما بين بين.

إشكالية الديمقراطية مطروحة فى أنحاء كثيرة من العالم كما يكشف عن ذلك النقاش الحالى على هذه الصفحة منذ ثلاثة أسابيع وهى تخصنا لأننا إن لم نشترك فى حلها فإننا لن نتقدم على طريق حكم أنفسنا بأنفسنا. ولكن لا بد أن نعرف أين نحن من هذه الإشكالية إن كان لنا فعلا أن نشترك فى حلها. إذا تفحصنا خصائص الديمقراطية، سنجد أن لدينا عجزا هائلا فى كل منها. فلننظر فى بعض منها. أيا كانت الأسباب المسوقة، فإن الانتخابات لدينا ليست تنافسية. الانتخابات الرئاسية ليست كذلك والمشهد الراهن يعفى من ضرورة الإتيان بأى برهان. والانتخابات النيابية لم تكن بدورها تنافسية ولقد تكفل القانون الانتخابى بضمان ألا تكون. نزاهة الانتخابات بعد ذلك لا قيمة لها. مادام التنافس منعدما، فما الحاجة إلى التلاعب؟ أما الانتخابات المحلية فهى لم تنعقد أصلا ولا يعرف أحدٌ إن كانت ستجرى يوما. المشاركة فى العملية السياسية محدودة جدا تاريخيا فى مصر، ولم يرتفع معدلها نسبيا إلا عندما أجريت انتخابات رئاسية تنافسية فعلا أو فى الانتخابات النيابية فى الأرياف بفعل العصبيات وعندما سمح القانون الانتخابى بذلك. الاضطراب الحالى بشأن المشاركة فى الانتخابات الرئاسية، والدعوة المحمومة إليها، وكيل أبشع الاتهامات للمقاطعين والممتنعين ــ براهين على أن القائمين على السلطة يدركون أن المشاركة الطوعية ستكون منخفضة للغاية. المفارقة هى أن انخفاض معدل المشاركة هو تعبير عن نجاح مسعاهم فى القضاء على المنافسة! أما المعلومات الموثوق بها والمنتجة باتباع منهج علمى رصين، والتى يمكن التحقق من سلامتها، فهى غير متوافرة. هل يعلم أحد تكاليف المشروعات وأولوياتها وبدائلها التى كانت متاحة؟ هل حقوق الأقليات السياسية فى التعبير عن آرائها ومواقفها مكفولة؟ جلسات مجلس النواب غير مذاعة ولكن اقرأ ما ينشر بين الحين والآخر عن تعامل الأغلبية الساحقة مع الأقلية الهزيلة جدا التى لا يمكن أن تؤثر فى أى قرارات يتخذها المجلس ومع ذلك فهى محاصرة. وعن الحريات السياسية، انظر إلى صحافة الدولة وإلى قنوات التلفزيون التى تجمعت فى أيدى نفس الدولة وأجهزتها، راجع الآراء فى هذه الصحافة ومن يظهر على شاشات التلفزيون ستجد أن حرية التعبير مكتومة. وأخيرا تمعن فى المبرر الأساسى لخنق خصائص الديمقراطية الأخرى، أى السياسات التى ينبغى أن تعكس رغبات الناس وأن تحقق مصالحهم وأن تكون فعالة فى تحقيق هذه المصالح. حتى الآن هى لم تتحقق مصالح الناس. المؤشرات الاقتصادية الكلية تحسنت، والنشاط الاقتصادى ــ خاصة فى قطاعات مثل البناء ــ ارتفعت وتيرته، ولكن تكاليف المعيشة ما زالت فوق طاقة الناس، والفقر واسع النطاق، والتعليم فى الحضيض تريد الدولة هبات لتمويل إصلاحه، بعبارة أخرى: هى لا ترغب فى تمويله بينما واجبها الأول هو تمويل هذا الإصلاح بل تمويل ثورة كاملة فى التعليم الذى يتوقف عليه ــ وعليه وحده، وليس على أى ريع للغاز أو غيره ــ مستقبل المصريين الذين سيتعدون المائة مليون قريبا جدا. خصوم الديمقراطية سيقولون انتظروا نتائج السياسات الموضوعة لخدمة الناس والناجحة بالتأكيد. لا حاجة لأى من خصائص الديمقراطية. هذا هو موضوع الخلاف الأساسى معهم. لا توجد سياسات ناجحة بالتأكيد مهما خَلُصَت نوايا واضعيها ومنفذيها. خصائص الديمقراطية ضرورية لمتابعة السياسات منذ نشأتها كأفكار، ثم عند بلورتها، وتنفيذها، والتعديل فيها إن لزم، والتقويم المستمر لنتائجها ولآثارها المحسوبة من جانب وغير المتوقعة من جانب آخر، وللمساءلة فى سلامة هذه السياسات أصلا والأولوية الممنوحة لها. انتفاء خصائص الديمقراطية يمكن أن يؤدى إلى فشل تام فى اختيار السياسات وفى تحقيق نتائجها.

***

يمكن السكوت على نقص هنا أو هناك فى بعض خصائص الديمقراطية، وعلى كل حال لا يوجد نظام ديمقراطى تكتمل فيه كل هذه الخصائص. غير أن الضرورى تماما هو أن يبدأ النظام السياسى المصرى بالارتفاع فى قياس مؤشرات كل من هذه الخصائص بحيث يجتمع ــ وإن تدريجيا ــ الشرطان المذكوران أعلاه ألا وهما قبول شرعية الآخر المختلف أو المعارض، والتسامح واحترام روح القانون مثل نصه.
إن تحقق هذان الشرطان، سنكون قد تقدمنا على الخط الواصل بين النموذجين المثاليين للسلطوية والديمقراطية، آملين أن نكون أقرب إلى هذا الأخير.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات