الاقتصاد المصرى بين الميزانية العامة والتحديث والتنمية - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاقتصاد المصرى بين الميزانية العامة والتحديث والتنمية

نشر فى : الأحد 25 مايو 2014 - 5:30 ص | آخر تحديث : الأحد 25 مايو 2014 - 5:30 ص

منذ عشرات السنين يحتدم النقاش العام حول مسألة دعم السلع التموينية ودعم الوقود ثم يخبو، ويشتعل من جديد ثم يخبو مرة أخرى، فى تواتر لا خروج عليه ولا مخرج منه. النقاش العام بدأته دوما الحكومات المتعاقبة وهى أيضا التى أخمدته. هذه الحكومات لم تستطع أن تسكت على مسألة الدعم ولا هى قدرت على حلها.

حقيقة الأمر هى أن الدعم مسألة لا يمكن السكوت عليها لما تمثله من ضغوط على الميزانية العامة للدولة. التقديرات تتفاوت ولكنها كلها تشير إلى ضغوط يستحيل الاستمرار فى تحملها. هذه التقديرات تذهب إلى أن أكثر من 30 فى المائة من النفقات العامة فى الميزانية العامة للدولة أصبحت مخصصة لدعم السلع التموينية والوقود، إن أضيفت إليها خدمة الدين العام التى تمثل أكثر من 20 فى المائة من النفقات العامة، فإن الإجمالى يصل إلى ما فوق الخمسين فى المائة، فإن زدت عليها أيضا أجور وتعويضات الموظفين والعاملين فى الجهاز الإدارى للدولة وهى تبلغ 25 فى المائة من النفقات العامة، فإننا نصل إلى إجمالى يتعدَى 75 فى المائة من الإنفاق العام. لا يتبقى إذن من الإنفاق العام إلا أقل من ربعه لتمويل المصروفات العامة والاستثمارات فى التعليم والصحة والإسكان وغيرها من مناحى حياة المصريين. وهذا الربع نفسه ممول جانب كبير منه بالاستدانة لانخفاض الإيرادات العامة عن النفقات العامة المرصودة فى الميزانية.

•••

الطامة هى أن معدلات نمو السكان المرتفعة ترتب زيادات متلاحقة فى الانفاق على دعم السلع التموينية. والطامة الأكبر، ومدعاة السخرية، هى أن استئناف النمو الاقتصادى بمعدلات مرتفعة سيرتِب زيادة فى الطلب على الوقود وبالتالى ارتفاعا فى النفقات المخصصة لدعمه! الدعم هو إنفاق عام بغرض تعويض المواطنين عن انخفاض دخولهم وتمكينهم من تلبية احتياجاتهم المعيشية. النتيجة المنطقية لمثل هذا التعريف للدعم هو أنه لا بد أن يكون مؤقتا، من جانب، وأن تصاحبه سياسات لرفع مستوى دخول المواطنين حتى يتمكنوا من تلبية احتياجاتهم من ثمار عملهم، من جانب آخر. غير أن ذلك لم يحدث. استمر النظام السياسى وحكوماته فى التخفيف شيئا ما من آثار الحريق، بينما الحريق يزداد اشتعالا! الدعم صار بمثابة تيار من ماء مدفوع بضعف فى خرطوم ممتلئ بالثقوب، يرش على نار حاجة وفقر تأكل مزيدا من المواطنين فى كل يوم. بدلا من أن يعالج النظام السياسى جذور الفقر، اكتفى بتضميض بعض حروقه.

•••

فى هذا الوضع الشاذ تعبير بليغ عن الفشل الذريع للنظام السياسى الذى حكمت مصر من خلاله لعشرات السنين الماضية. لابد من الخروج من هذا الوضع ليتسع أمام الحكومة الحيِز الذى يمكن أن تتحرك فيه والذى يمكنها من تمويل السياسات العامة التى يحتاج المواطنون إلى ثمارها. غير أن للدعم أسبابه. الفقر والحاجة لن يختفيا بين سنة وأخرى. والمواطنون اعتادوا على الدعم. لذلك فإن التخارج من الدعم يحتاج إلى نوعين من المهارة، مهارة فى السياسات، ومهارة سياسية. المهارة مهمة لتصميم سياسات ترفع الدعم تدريجيا، عن الوقود أولا، وعن السلع التموينية بعدها، وتحفظ الدعم فى المراحل الأولى لتنفيذها للمواطنين الفقراء وذوى الدخول المنخفضة. والمهارة السياسية أكثر ضرورة. من يتصدَى لتخفيض الدعم بحاجة إلى أن يجمع قاعدة سياسية واسعة تتبنَى هذا التخفيض وتعينه على أن يقبل المواطنون به. والمهارة السياسية ضرورية أيضا لوضع وتنفيذ سياسات تشاركية يلمس المواطنون تدريجيا نتائجها الإيجابية على تلبية احتياجاتهم فيرضون بالاستغناء رويدا رويدا عن الدعم الذى يلقونه ويصبرون حتى يتحقق الارتفاع الحاسم فى مستويات معيشتهم.

السياسات التشاركية المطلوبة هى سياسات أوسع نطاقا تهدف إلى تحقيق التنمية الضرورية لمصر وللمصريين، ففى نهاية المطاف التصدى للدعم وحده هو مسألة تتعلق الميزانية، وهو تصد سيكون قاصرا بدون التقدم نحو التنمية.

تخفيض الدعم لن يحرر على أقصى تقدير غير 2 إلى 3 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى وهذه نسبة متواضعة قياسا بالمطلوب كمعدل للاستثمار يحقق نموا بمعدلات مرتفعة لسنوات عديدة ومتصلة. فى جنوب شرقى وشرقى آسيا تراوحت معدلات الاستثمار فى بعض بلدانها ولسنوات طويلة حول الـ35 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، بينما هى لم تبلغ نصف هذا المستوى فى السنوات الأخيرة فى مصر، بل إنها وصلت بالكاد إلى الـ20 فى المائة فى السنوات السابقة على 2011.

ومع ذلك فإن الاستثمار وحده ليس كافيا لتحقيق التنمية. إن الاستثمار وحده يمكن أن يبقى على تشوه الاقتصاد، ولا أحد يجادل فى أن الاقتصاد المصرى مشوه وهو لذلك منخفض الإنتاجية، منخفض القيمة المضافة. أما القيمة المضافة فهى القيمة التى تضيفها عملية الإنتاج إلى تكلفة مدخلات هذا الإنتاج. حيث يرتفع المكون المعرفى فى عملية الإنتاج، وحيث يزداد تركيب هذه العملية وتعقدها، ترتفع القيمة التى تضيفها ويرتفع معها ما يوزع على العمال وأصحاب رأس المال من ثمار الإنتاج. فى مصر، فى المناطق الريفية، الزراعة منخفضة القيمة المضافة وفى الحضر، يمثل القطاع غير المنظم، حيث تنخفض القيمة المضافة أيضا، ما يقرب من 80 فى المائة من الأنشطة الاقتصادية الخاصة. لذلك، فإنه علاوة على الاستثمارات، المطلوب تخطيط لسياسات اقتصادية كلية ولسياسات قطاعية تعتمد الحوافز كأدوات لحث الفاعلين الاقتصاديين على النشاط فى هذا القطاع أو ذاك، أو فى هذه الصناعة أو الخدمة، أو تلك، وسياسات تأخذ بأدوات التعليم، والتدريب، والبحث العلمى، ومساندة التسويق الداخلى والخارجى، وإنشاء الروابط بين المنشآت، وعبر القطاعات والصناعات والخدمات.

•••

آفة النظام السياسى المصرى هى أنه يريد أن يشغِل دولة حديثة باقتصاد متخلف. المواطنون فى الدولة الحديثة لهم حقوق واستحقاقات ينتظرون تحقيقها، ولكن الاقتصاد المصرى لا يقوى على انتاج الثروة والدخل الكافيين للوفاء بهذه الحقوق والاستحقاقات. تحديث الاقتصاد والتنمية شرطان لا غنى عنهما لاستدامة النظام السياسى ولصلب عود الدولة الحديثة فى مصر. هذا التحديث وهذه التنمية لا يمكن أن ينجحا إلا بالتشارك فى تصميمهما وتنفيذهما وفى جنى ثمارهما، بعبارة أخرى هما لا يمكن أن ينجحا إلا بالديمقراطية الحقة.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات