لطالما كانت السينما وسيلة فنية تتجاوز الترفيه لتصبح أداة أو وثيقة تكشف عن خفايا الأنظمة، وتسلّط الضوء على ممارسات السلطة وفى الولايات المتحدة الأمريكية، وحيث تُمثل حرية التعبير أحد أعمدة الديمقراطية المعلنة؛ كانت السينما فى كثير من الأحيان وسيلة لكشف الخداع السياسى الأمريكى، وفضح التناقضات بين الشعارات والممارسات الواقعية.
منذ سبعينيات القرن الماضى، بدأت أفلام هوليوود تتناول السياسة الأمريكية بنقد لاذع، خاصة بعد فضيحة ووترجيت، وحرب فيتنام، وهنا نتذكر أفلام مثل «كل رجال الرئيس» ، قدّمت الصحافة كقوة مضادة للسلطة، وكشفت كيف أن أعلى مستويات الحكومة تتورط فى مؤامرات وخداع، وكانت النتيجة استقالة ريتشارد نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة عام 1974.
وفى مسألة الحروب كمسرح للخداع تناولت أفلام مثل «ذيل الكلب» (1997) للمخرج بارى ليفنسون، فكرة اختلاق الحروب لتشتيت الرأى العام الداخلى، حيث تُظهر كيف يمكن للإعلام والسياسة أن يتلاعبا بالشعب الأمريكى ويصنعا واقعًا وهميًا يخدم المصالح السياسية، والفيلم قدّم رؤية ساخرة لكنها عميقة لما وراء الكواليس فى حرب عاصفة الصحراء.
أما فيلم «المنطقة الخضراء» (2010)، للمخرج بول جرينجراس، فقدّم سردًا نقديًا لدوافع غزو العراق، مشيرًا للأكاذيب المتعلقة بوجود أسلحة دمار شامل، والتى رُوّجت لها أمريكا لتبرير الغزو أمام الرأى العام العالمى.
وبعد أحداث 11 سبتمبر، اتخذت السينما منحى أكثر جرأة بنقد سياسات مكافحة الإرهاب، وفيلم «التقرير» (2019) على سبيل المثال، للمخرج سكوت زد، يُفصّل التحقيقات حول تعذيب وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) للمعتقلين، كاشفًا عن كيف تم التستر على انتهاكات حقوق الإنسان باسم الأمن القومى.
اللافت أن كثيرًا من الأفلام صُوّرت وأُنتجت داخل أمريكا، ما يعكس وجود تيارات فكرية وفنية معارضة داخل المجتمع الأمريكى.
كانت السينما المستقلة، على وجه الخصوص، أكثر جرأة فى الطرح، وغالبًا ما قدّمت روايات تتحدى السرديات الرسمية للدولة.
رغم أن السينما ليست مصدرًا تاريخيًا تقليديًا فإن الأفلام السياسية تُعدّ أحيانًا بمثابة «وثائق موازية»، ترسم تصورًا عن المزاج الشعبى والوعى الجمعى تجاه الأحداث، وهذه الأفلام لا تسرد الحقائق فقط، بل تطرح أسئلة أخلاقية حول السلطة، الحقيقة، والخداع.
أثبتت السينما الأمريكية أنها ليست فقط أداة ترويج لأيديولوجيات الدولة، بل أيضًا منبر للمساءلة وكشف الخداع السياسى، وبينما تستمر الحكومات فى ممارسة سياسات قائمة على التضليل، تظل الكاميرا وسيلة قادرة على التقاط ما وراء الستار، وفى النموذج الأخير «الضربة الأمريكية لإيران» نجد أنه من أبرز أدوات الخداع السياسى هو خلق صورة «العدو المثالى»، وغالبًا ما كانت إيران فى الإعلام والسينما والسياسة الأمريكية هدفًا سهلًا منذ الثورة الإيرانية عام 1979، سعت الخطابات السياسية الأمريكية إلى تصوير إيران كتهديد دائم للسلام العالمى، ما مهّد الطريق لتبرير أى تصعيد عسكرى.
فى أوقات الأزمات الداخلية الأمريكية، خاصة عندما تواجه الإدارة صعوبات سياسية أو اقتصادية، تُستخدم السياسة الخارجية كأداة لصرف الأنظار عن المشاكل الحقيقية، والحديث عن الضربة العسكرية الوشيكة ضد إيران كان يظهر دائمًا فى الإعلام الأمريكى فى سياقات توقيتية مثيرة للريبة تزامنًا مع فضائح أو احتجاجات داخلية.
لم تكن الضربات الأمريكية لإيران مجرد ردود فعل عسكرية، بل كثيرًا ما اتُّخذت كرسائل سياسية محسوبة، مثال على ذلك: اغتيال قاسم سليمانى (2020)؛ قُدّم على أنه خطوة ضرورية لحماية الأمريكيين من «هجمات وشيكة»، لكن لم تُقدم الأدلة الكافية على هذا التهديد، واعتبر كثيرون أن الضربة كانت محاولة من إدارة ترامب لتغيير المشهد السياسى الأمريكى قبل انتخابات مقبلة أو لتحسين صورته بعد إجراءات عزله.
اللافت هنا أن كثيرًا من النقاد والمحللين شبهوا هذه التحركات بما تم عرضه فى فيلم «ذيل الكلب»، حيث تُختلق أزمة عسكرية لصرف الانتباه عن فضيحة سياسية داخلية.
يُعد هذا الفيلم الأكثر شهرة فى تصوير فكرة اصطناع الحرب، وتدور القصة حول رئيس أمريكى يُورّط نفسه فى فضيحة جنسية قبل الانتخابات، فيقرر فريقه الإعلامى افتعال حرب ضد ألبانيا، وتصويرها سينمائيًا كحدث حقيقى عبر وسائل الإعلام، وما يثير الاهتمام هو أن الفيلم سبق أحداث 11 سبتمبر، لكنه تنبأ بدقة بكيفية استخدام الإعلام والحرب كأداة لصناعة الخداع السياسى.
فيلم «Vice 2018» أو «نائب» يتناول صعود ديك تشينى إلى السلطة وتورطه فى قرارات الحرب على العراق، ورغم أن الفيلم لا يركّز على إيران، فإنه يُظهر كيف تُختلق التهديدات ويتم التلاعب بالرأى العام تحت ستار الأمن القومى، وهى نفس الآلية التى تُستخدم باستمرار فى التعامل مع التهديد الإيرانى.
ورغم أن فيلم «التقرير» يركّز على التعذيب بعد 11 سبتمبر،فإن الفيلم يُظهر كيف تم إخفاء الحقائق وتزييف المعلومات لصالح الرواية الرسمية، وهذه النقطة تنطبق على سياق الترويج لأى ضربة لإيران بحجج قد لا تكون واقعية، بل سياسية بحتة.
ويأتى الإعلام كذراع للسينما والسياسة.
السينما لا تعمل بمعزل عن الإعلام، وكثير من الأفلام تصور العلاقة المعقدة بين السلطة، الصحافة، والسينما. فى سياق الضربة لإيران، لعب الإعلام الأمريكى دورًا كبيرًا فى تأجيج المشاعر القومية، وترديد روايات غير موثقة، وكأن الحرب حتمية، مما يهيئ الرأى العام لتقبّل العدوان كخيار «دفاعى».
خلاصة القول «الضربة الأمريكية لإيران» ليست مجرد حدث عسكرى، بل مثال حى على كيف تُستخدم الحروب كوسيلة للخداع السياسى، يتم فيها التلاعب بالإعلام، تصوير الخصم، وتوجيه الرأى العام لخدمة مصالح النخبة السياسية.. وستبقى السينما شاهد عيان على تلك اللعبة، وسوف ننتظر أفلامًا قادمة تثبت جرأتها وتكشف فى تفكيك هذه اللعبة، وتكشف الحقائق.