ما قيمة أمريكا؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما قيمة أمريكا؟

نشر فى : الخميس 25 نوفمبر 2010 - 10:26 ص | آخر تحديث : الخميس 25 نوفمبر 2010 - 10:28 ص

لن يمس التراشق الإعلامى والدبلوماسى الدائر بين واشنطن والقاهرة جوهر العلاقات بينهما، ما يهدد هذا الجوهر ويهدد فى الوقت نفسه مستقبل علاقات أمريكا بمنطقة الشرق الأوسط هو تطورات أهم كثيرًا من هذا التراشق وأشد خطورة. 

تجاوزت الولايات المتحدة حدود وأصول التحالف القائم بينها ودول الاعتدال العربى، تجاوزتها حين تجاسرت وعرضت على نتنياهو، والفلسطينيين والعرب من ورائه، اقتراحا بلغت وقاحته حد الاستهانة بذكاء حلفاء أمريكا من حكام المنطقة.

أخطأت الحكومة الأمريكية حين تقدمت بهذا العرض، وأخطأت حين أعلنته، وأخطأت حين بدت، إعلاما ودبلوماسية ورأيا عاما، مستهينة بخطورة صدام أشد عنفا أكاد أجزم أنه باتت تتوقع وقوعه بين يوم وآخر عواصم عديدة فى الشرق والغرب.

لست وحدى من يعتقد أن صورة أمريكا عند العرب ما كانت فى أى يوم مضى أسوأ مما هى الآن. لا أبالغ، ولست منفعلا، ولكن حساباتى انتهت إلى أن مكانة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط تدنت إلى مستوى لم تتدن إليه من قبل.

تدنت عند الإسرائيليين الذين اكتشفوا حقيقة معدن أمريكا وقوتها حين سلطوا عليها نفوذ الأقلية اليهودية فى أمريكا فدانت لهم وخضعت، وتدنت بين العرب والمسلمين الذين وجدوا أنفسهم منساقين تحت وهم الاعتدال والتحالف مع أمريكا إلى بذل الغالى والرخيص. صارت دولهم فى المؤخرة، وحكوماتهم مهانة ومستفزة، ومجتمعاتهم مهددة بالتفتيت والتشهير وفى أحسن الأحوال التجاهل.

يبدو، للوهلة الأولى، أن مسئولية التردى المتسارع فى مكانة الولايات المتحدة تقع بالدرجة الأولى على عاتق الرئيس باراك أوباما. أوباما لاشك يتحمل جانبا من المسئولية، باعتباره العنصر المعجّل أو الكاشف لحالة الضعف التى تنتاب أمريكا. يحتمل، كما يقول سايمون سيرفاتى من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فى واشنطن، أن تكون عفويته ورومانسيته تدخلتا خلال الحملة الانتخابية الرئاسية فى رسم صورة للعالم تختلف فى نواح أساسية عن الواقع الذى لامسه أو انخرط فيه عندما تولى الرئاسة، إلا أن هذا الاحتمال لا يعفيه فى رأينا، من مسئولية الفشل فى التعامل مع هذا الواقع.

لعله تصور مثلا أن قضية الشرق الأوسط، وبخاصة ما يخص الصراع العربى الإسرائيلى، قابلة للتسوية بمجرد أن يقرر كرئيس لأمريكا تغيير النهج الذى سار عليه سلفه جورج دبليو بوش.

لم يقدر تقديرا حسنا أن القوة الأعظم فى تسيير السياسة الخارجية الأمريكية فى هذا الموضوع تكمن فى التجمعات الصهيونية فى الولايات المتحدة، وبخاصة بعد أن فرضت على ممارسات السياسة فى الولايات المتحدة مفهومها الخاص للولاء المزدوج، وحرمت غيرها من أن يكون له مفهومه الخاص.

يشترك مع أوباما فى مسئولية التعجيل بالتردى الأمريكى قيادات سياسية وشعبية من دول عديدة تحمست لوصوله إلى منصب رئاسة أمريكا، إذ أثارت حماسة هذه التيارات لأوباما خوف قطاع غير صغير فى المجتمع الأمريكى.

بعض هذه التيارات كان يعكس اتجاهات سائدة فى دول «غير بيضاء» و«إسلامية»، وبعض آخر يعكس اهتمامات رافضة للتوسعية الأمريكية، وبمعنى أدق رافضة للنزعات الامبريالية التى تبشر بها قطاعات مالية وصناعية فى الطبقة الحاكمة الأمريكية وكذلك المؤسسة العسكرية، وبعض ثالث يمثله اقتصاديون كبار يرفض قواعد النظام المالى المعمول به فى الولايات المتحدة ويحمَّله مسئولية الكوارث التى يشهدها العالم منذ عام 2008.

تسببت حماسة هذه التيارات ودعمها المبكر لأوباما عند تسلمه السلطة فى إثارة الشكوك حول ميوله، بالإضافة إلى اتهامه بأنه «إسلامى» الميول وربما العقيدة، وبأنه اشتراكى وربما متطرف فى اشتراكيته. وبأنه يعتنق مبادئ العداء للاستعمار التى عرفت منذ زمن بالمنظومة الكينية المعادية للاستعمار. وهى بهذا المعنى تهدد سلامة الاقتصاد الأمريكى ومبادئ حرية التجارة.

أما كيف فقد أوباما بعد ذلك مكانته وشعبيته لدى التيارات التى تحمست له عند وصوله إلى الحكم، فبعض الأسباب يحتاج إلى سنوات لفهمه وتقدير أسبابه. وعلى ضوء هذه المرحلة المبكرة جدا أستطيع المجازفة بالقول إن أوباما فقد المكانة والشعبية لأنه أثبت بأكثر من دليل أنه غير مؤهل لحماية معتقدات ما وعد ومن صدقها ضد الهجمة الشرسة فى حال صحت الاتهامات وكان حقا مؤمنا بها، أو فى حال أنه بالفعل لم يؤمن بها فى أى يوم، ولم تكن بالنسبة له سوى بنود فى برنامج انتخابى أدت الغرض منها وسقطت مع أول مواجهة مع الواقع السياسى الأمريكى.

قرأت لمن يقول إن حالة أمريكا الراهنة أقرب ما تكون إلى حالة الاتحاد السوفييتى فى زمن ضعفه. يقول إن الاتحاد السوفييتى فى ذلك الوقت، وقت انكشاف الضعف، كان مثل أمريكا الآن عاجزا عن وقف الانكماش فى مكانته الدولية والإقليمية قبل أن تبدأ التقلصات فى هياكله الداخلية.

ليس هذا هو المكان المناسب لسرد تفاصيل مسلسل الفشل فى السياسة الداخلية الأمريكية وعنوانه الأعظم البطالة وعناوينه الفرعية استمرار تعقد الأزمة المالية والانقلاب اليمينى على الديمقراطيين من خلال الانتخابات الأخيرة وتدهور ثقة الناخب الأمريكى فى مؤسسات الدولة وحال الغضب السائد فى المجتمع وتوتر المزاج الشعبى. ولن أسرد تفاصيل مسلسل الفشل فى السياسة الخارجية، فهى أكثر من أن يحتويها مقال محدود المساحة، ومع ذلك تبقى عناوين الفشل فى السياسة الخارجية صاخبة الصوت وزاعقة الأضواء والألوان.

من أين نبدأ؟ نبدأ من الآخر؟. نبدأ بالفشل الأمريكى فى التوصل إلى اتفاقية تجارة حرة مع كوريا الجنوبية خلال زيارة اوباما لسول الأسبوع الماضى، وهو ما يعتبره ريتشارد هاس أقوى دليل. تأتى بعده الصعوبة التى واجهت وفود أمريكا، وأحدها برئاسة أوباما شخصيا، فى اقناع دول آسيا بصواب السياسات النقدية الأمريكية الجديدة، أو فى إقناعها بأفكار، بعضها اعتبرته دول آسيوية شديد السذاجة، هدفها مواجهة توسع الصين الاقتصادى فى شتى أنحاء آسيا.

نواصل مسلسل الفشل، ومن الآخر أيضا، بقصة الصعوبات التى تواجهها حكومة واشنطن فى الحصول على تصديق الكونجرس على اتفاقية ستارت 2، رغم إلحاح إدارة الرئيس أوباما والمؤسسة العسكرية الأمريكية التى تخشى أن تفقد بعدم التصديق على الاتفاقية فرصة الاطلاع على مستودعات السلاح النووى فى روسيا.

ومن الآخر أيضا نضيف تصريحات قرضاى شديدة الانتقاد للعمليات العسكرية التى تنفذها القوات المتحالفة مطالبا بتخفيضها ومحتجا على استهتار قوات التحالف بحياة المدنيين وممتلكاتهم، فى تعبير شديد الوضوح عن حال استياء بالغ فى صفوف الشعب الأفغانى من استمرار الاحتلال الغربى.

أم نبدأ من تطورات أقل حداثة مثل استمرار أزمة الحكم فى العراق لأكثر من ثمانية أشهر رغم كثافة الضغوط الأمريكية، وعندما أوشكت الأزمة تتوجه نحو حل، خرجت أصوات عراقية تؤكد أن الحل يبدو مؤقتا والأزمة مرشحة لتعقيد أشد، وأن الولايات المتحدة مازالت تضحى بالعراق من أجل مصالح لها مع إيران وتركيا ودول إقليمية أخرى.

بمعنى آخر مازالت الولايات المتحدة عاجزة عن حسم أطول حربين فى تاريخها وعاجزة عن أن تثبت للعالم أنها مازالت مؤهلة لقيادة الغرب، ولم يعد خافيا على التحليل الاستراتيجى حقيقة أن محاولات أمريكا المتعددة لفرض طوق حول الصين وخلق أجواء حرب باردة معها وفى منطقة جنوب آسيا لم تحقق حتى الآن سوى ارتباك ظهر واضحا خلال زيارة أوباما للهند وانعكس على أعمال مؤتمر قمة العشرين ومؤتمر الآبيك، وليس خافيا ايضا الحال الذى تردت إليها الأحوال فى باكستان، وبعضها سوف يصب بشكل أو بآخر فى تيار الحرب الأمريكية فى أفغانستان، وأقصد تحديدا تصعيد سباق العنف والمؤامرات بين الهند وباكستان فى الساحة الأفغانية مع كل بادرة تشير إلى قرب انسحاب قوات دول أوروبية من حلف الناتو.

لم يكن هدف السطور السابقة سرد إخفاقات الرئيس باراك أوباما فالفشل بدأ قبل وصوله إلى الحكم, ولم يكن الغرض حصر إخفاقات الولايات المتحدة داخليا وخارجيا، فالمساحة كما قلت لا تسمح.

إن تلاحق حلقات الفشل فى ممارسة أمريكا مهام القيادة الدولية وعجزها عن استعادة مكانة كانت متقدمة قبل أن تنحسر لا يبرر سكوتنا طويل الأمد على «تجريح» ذكاء حكام الفلسطينيين والعرب والمسلمين فى كل مكان حين «جرجرتهم» الولايات المتحدة منذ مؤتمر مدريد عاما بعد عام ورئيسا بعد رئيس ومؤتمرا بعد مؤتمر ومبادرة بعد مبادرة من تيه إلى تيه، وأخيرا أضافت أمريكا إلى الجرح إهانة حين أعلنت عن عرضها السخيف والمتغطرس الذى قدمته إلى نتنياهو مقابل تجميد بعض الاستيطان لبعض الوقت.

لم تمر هذه الحلقة الجديدة من حلقات الفشل الأمريكى ببساطة، ولن تمر. ذكرتنى وذكرت زملاء آخرين تكالبوا فى الوقت نفسه على تذكيرى، بورقة بحثية قمنا فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بإعدادها قبيل نشوب حرب أكتوبر 1973، كنا قد ناقشنا فى الورقة حالة العجز البادية فى السلوك السياسى للاتحاد السوفييتى فى ذلك الحين وركزنا على خطورة اعتمادنا فى مصر على حليف يهيمن على كثير من تصرفاتنا وأدائنا فى الداخل كما فى الخارج، كان الهدف هو التنبيه إلى أن الاتحاد السوفييتى لأسباب تتعلق بمصالحه الدولية الأخرى وبسبب ضعفه النسبى وقتذاك فى مواجهاته مع الولايات المتحدة، قد يلجأ إلى عرقلة قرار الحرب الشاملة ضد إسرائيل.

شئنا وقتها أن نقول لأهل الفكر والسياسة تعالوا، قبل أن نتورط فى حرب وسلام معتمدين على حليف متناقص القوة والنفوذ وخاضع لاعتبارات خاصة، نجيب بصراحة وجرأة على السؤال التالى: ما قيمة الاتحاد السوفييتي؟. وجهنا النداء وكنا على حق حين أطلقنا السؤال. والآن وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود نجد أنفسنا فى مصر وعديد الدول العربية والإسلامية نمر بظروف مشابهة: نعتمد على حليف متناقص القوة والنفوذ وخاضع لإرادة عدو لم يصالحنا. حليف لا يهمه إلا استنزاف مواردنا والسيطرة على خيارات تقدمنا وتحررنا وإخضاعنا معه لهيمنة إسرائيل. حليف لا نثق فى قدرته على حماية طموحاتنا فى الأمن والاستقرار الإقليمى واستعادة مكانة كانت متقدمة قبل أن يعمل وإسرائيل على تقليصها.

نداؤنا اليوم لأهل الفكر: تعالوا قبل أن نزداد تورطا نجيب عن السؤالين: ما قيمة أمريكا؟.. وما قيمتنا؟
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي