فى مَلحمة المَعرفة والخَوض فيها - العالم يفكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 9:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى مَلحمة المَعرفة والخَوض فيها

نشر فى : السبت 28 يوليه 2018 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 28 يوليه 2018 - 9:05 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «أحمد فرحات» يتناول فيه الجدل حول التفكير الجيد الذى يشبع رغبات الإنسان هل يتم من خلال العقل أم القلب؟. يرى الكاتب أن التفكير العقلى الناجح لابد أن يكون مزيجا بين الحدس والمنطق ومن الإلهام والتأمل، وكذلك مزيجا من الغموض والوضوح، وبالتالى كلما انسجم المزيج الفكرى المنطقى بالوجدانى الالهامى، أصبحت شخصية الإنسان قوية ولا تلد ضعفا.
استهل الكاتب حديثه بأن المعرفة السّاطعة النّافذة، هى العقل الذى لا يملّ من نزعة الحوار أو الجدل المُنتِج بين الثقافات والحضارات، هذه التى بدَورها تجعل من الظنّ يقينا ومن الأمانى مُتونا، ويتجلّى فيها، على الدوام، العُمق التاريخيّ والمستقبليّ والبُعد الاجتماعيّ والأنثروبولوجيّ والنفسانيّ والفكريّ.
المعرفة السّاطعة أو «المعرفة القويّة»، هى نِتاج كلّ مَن اشتغل بها أو عليها من الأفذاذ على امتداد الحقب والمَراحل الزمنيّة، بما فيها أزمنة ما قبل اكتشاف اللّغة، بوصفها بنية تؤشّر على معنى العالَم.. هؤلاء الذين دفعوا فى الماضى ويدفع نظراؤهم اليوم، وغدا، ضريبة هذه الجسارة الثقافيّة بالاحتراق لأجل مُراكَمة جديدهم المَعرفيّ على المَعارف البشريّة السائدة والغائرة كلّها، وجعْلها تفعل مفاعيل الأشعّة اللّا نهائيّة.
صحيح أنّ المعرفة الكليّة، بلغة المتصوّفة، ولغة حتّى كبار علماء الفيزياء فى الغرب، وتحديدا فى الولايات المتّحدة، من أمثال كارل ساغان وكينيث فروست ونيل تايسون ومارغريت بوربيدج.. وغيرهم.. وغيرهم، هى مسألة لا يُمكن أن يُدركها مخلوق فذّ، لأيّ شعب أو أمّة انتمى، فهى من اختصاص غير الإنسانى، أى الإلهى الذى نجلّ ونحترم بعيدا من أيّ توصيف أو تشخيص. لكنّ الإله، فى المقابل، دعانا إلى الخوض فى ملحمة المعرفة وامتصاص «توتّراتها المومضة» وفضّ مخزوناتها التى لا قاع لها ولا مدارات محدّدة بعينها، ومن ثمّ التأهّب خلالها لإعطاء طاقة إضافيّة لحياتنا الرّاهنة والمُقبلة.
والتوحّد مع المعرفة، يظلّ توحّد حياة «عقل ــ نفسانيّة» حيّة، سخيّة، بمقدار ما هى عمق انفتاح استثنائى على المجهول، أو الآخر غير النمطى، إذ التطوّر، أو المستقبل الواثق، مُقيم دوما فى طوايا النَّفس.. والنَّفس المعارفيّة تؤهِّلنا دوما لنظلّ مُقبلين من خلالها على تغييرٍ فى أوراق المستقبل ومعانيه وآماده.
ونستدرك فنقول أيضا إنّه لا سبيل إلى استرداد وقتٍ فات إلّا بالمعرفة، أى بحرق الكثير من زيوت أدمغتنا، ومن دماء قلوبنا، ودقائق أعمارنا.
***
والمُبدع / العارِف، هو محاولة ثأر دائمة من المجهول والنَّيل منه (ماضيا ومُستقبلا)، لذا تراه يظلّ يضرب فى أعماق هذا المجهول، حتّى ينتج من خلاله ما يروم من تباين وتطوّر وتفريد.
والمُبدع/ العارِف، أى الشاعر الفذّ، هو فى حالة حرب دائمة مع نفسه، لذلك تهون معاركه مع الآخرين، وخصوصا الذين لا يفهمونه.. وهو هنا لا يتجاهل أحد البتّة بإرادته ونواياه، فالتجاهل هو نظير الافتعال تماما، كلاهما يؤدّى إلى انعدام الرؤية الصحيحة.
نعم، من خلال المعرفة وحدها، المعرفة الجارِفة، المنظَّمة، المُستوعِبة، المُتجاوِزة.. من خلالها فقط، تبدو أواخر الحياة مقطورة أبدا بأوائلها.
.. ويموت الشاعر العارِف، لكن لم ينِ يشعّ من عينيه نورٌ عظيم.

• بين المعرفة والتاريخ

كيف تَربِط علاقة المعرفة بالتاريخ؟ سألتُ صديقى المؤرّخ الفرنسى فرناند بروديل فى العام 1980، على هامش لقاءٍ «ثقافى متوسّطى» فى مدينة هيراكليون، عاصمة كريت، كبرى جُزر اليونان فى الحوض الشرقى للبحر المتوسّط، فأجاب بالحرف الواحد: «لا بدّ للمؤرّخ أن يكون فيه شيء من الشاعر، والشاعر العارِف / النّافذ بالتحديد، لأنّ كلّ ما مضى تحوَّل بدوره إلى رؤية طافية فى الزَّمن. وهذه الطفاوة فى الزَّمن، هى هنا أكثر عمقا من أيّ حقيقة صلبة أخرى. إنّها تدفعك كمؤرّخ كى تصير جزءا من المعرفة التى عليك اكتشافها من جديد، وتقديمها للآخرين، بشكلٍ جديد أيضا».
وهل يُمكننا تسمية ما تذهب إليه هنا بـ«فلسفة التاريخ»؟ أجاب بروديل على الفور: «دعك من هذا الكلام المُنمّط يا صاحبى. إنّنا نتكلّم هنا على ذروة المعرفة وعلاقاتها المتحوّلة بالزمن، وذلك كتجسيد لاستجابة إبداعيّة للحياة التى تتميّز بدَورها بالتعقيد والإبهام، وهى استجابة لا يُمكن اختزالها فى عبارات «منمّطة» أو تلخيصات نثريّة عابرة، بل لا بدّ لها من مثيرات شعريّة تليق بذرواتها، وبالمعنى الذى بات «يُطلقه» التاريخ على تجاذباتها التى يصعب حصرها، والمعرفة بفضل التاريخ المتحوّل، باتت تتّسم بالجِدّة الأخرى، والتباين الآخر، والإدهاش والمباغتة والغموض.
الشعر إذًا هو جوهر المعرفة المتحوّلة وأقربها إلى الزمن المفتوح.
وهل هذا المعنى للمعرفة يُدرَك أم يُعاش يا سيّد فرناند؟ سألته فأجاب:
«إنه يُدرك ويُعاش فى آن معا أيّها الصديق. تراه على طريقته، يُكوِّن طبقة جينيالوجيّة من المفاهيم والخبرات التى لا يعكسها مُطلق تفسير عاجز وغير عابر للأسطورى والطقوسى المُثقل بأسباب العالَم بوجهَيه القديم والجديد، وهُما يَستبدلان بعضهما بعضا بهدوء وسلاسة وبلا نكران».
على ما سبق، فإنّ المعرفة هى وجه التكوين، الظاهر منه والباطن فى نسق واحد يدفعنا بدَوره لاكتشافهما وصَوغهما فى أسئلة جديدة وقناعات مُغايرة، من شأنها تحرّى المَنسيّ أيضا، واللّا مفكَّر فيه، والمهمَّش، والمُهمَل، والمحرَّم والممنوع… إلخ.

• فى ما يشبه هجاء العقل

أحيانا يتحوّل العقل الصارم إلى سِربالٍ ضاغط لا يطيقه القلب؛ فالقلب هو«عقلٌ» أيضا، له تفكيره الإنسانى المَرِن، والسَّمِح الطيّب، ويدفعنا إلى أن نقف بين يديه، متأدّبين خاشعين لأحكامه التى لا تُزخرِف الكلام ولا توشّيه.
يتخطّفنا العقل، ويتناهبنا غالبا، فيدفعنا إلى الغضب من أنفسنا، ومن الآخرين، فنُسهِم فى تعقيد مشكلات المجتمع بدلا من ادّعائنا الاشتغال على حلّها.. ولا نعرف كيف نخرج منها، على الرّغم من إيماننا الدائم بأرجحيّة العقل على القلب.
فالعقل القاطع بذكائه الخارق، وفطنته النادرة، قد يسقط أحيانا فى حالٍ من البلادة والعيّ وخمول التكرار، وسيادة المفاهيم التعميميّة التى تنحرف عن محورها، ولا يدرى العقل أنّ هذا الذى يفزع إليه، إنّما هو مشكلته المُزمنة التى ترفض إشارات القلب ولطيف توازناتها.
مقطع القول، يُملى العقل علينا حوارا قهريّا، مشوبا بالعُصاب أحيانا وتجريد الأمور من ماديّتها، على الرّغم من تمثلّه لها باسم الواقعيّة والتحديد.. تحديد منطق الأمور بصورها العيانيّة.
أمعنى هذا أنّ العقلانيّين بلا قلب، يحملون فى أنفسهم أيضا عناصر المرض والجنون؟!.. أمعنى هذا أنّ العقلاء حين يشطبون قلوبهم هُم عقلاء مؤقّتون؟!.
ربّما، فالعالَم المسعور يُنتِج عقلا مسعورا، يَلتهم حتّى منطقه بالإصلاح ويودى به إلى (فى حال «العناد المنطقى») الشطط و«فوضى» التفكير والاعتماد على القياس العشوائى، ذلك أنّ العقل الصارم غير المرن يظلّ يلتهم صرامته ودقّة هندسته للأمور، ولا يشبع، بالتالى، من الالتهام الذى يظلّ يعزّزه بالنكد والغمّ.
ولنا أن نتساءل بعدها عن الحلّ.. أو فكرة ما العمل؟
لنعترف بأنّه لا يُمكن لتفكيرٍ معيّن، مهما بلغ نضجه، أن يُشبِع كلّ رغبات إنسانه باسم العقل والعقلانيّة، طبعا ما لم يتوافق ذلك، وبالتأكيد، مع مادّة خصبة من «جماليّات» القلب أو «ذهن» القلب.
لكن فى المقابل، الاعتماد على القلب أيضا من دون العقل، هو ضرب من المرض النفسانى والعقلى الذى يطيح بكلّ شيء، بدءا بالإنسان نفسه وانتهاءً بعالَمه المُتراكِم بمَساره من حواليه.
يختتم الكاتب حديثه قائلا: لا مراء إذًا من الخوض فى القول الاستنتاجى بأنّه لا بدّ فى المحصّلة من أن يكون التفكير العقلى الناجح مزيجا من حدس ومنطق ومن إلهام وتأمّل.. ومزيجا أيضا من غموض ووضوح؛ فالغموض يتّضح بالإلهام القلبى، والوضوح يَلتئِم بالمنطق العقلى.. والعقل الإنسانى المُنتِج أو المُبتكِر هو بالضرورة طيّع، مَرِن، وفيه من الإمكانيّات ما يكفل له أن يُعالِج العقلانى واللّا عقلانى معا.. وكذلك الواضح والغامض معا، وأنّ النَّفس الإنسانيّة المتفوّقة ما هى إلّا هذا الامتزاج من الشعور واللّا شعور، والوجدان واللّا وجدان، والحدس والتفكير. وكلّما انسجَم المزيج الفكرى المنطقى بالوجدانى الإلهامى، اقترب الإنسان من السواء، ومن الخُلُق ومن الشخصيّة القويّة التى لا تَلِد ضعفا، كما لا تَلِد عَنتا ولا عنادا.

النص الأصلى: 

التعليقات