شوفتكم بترد الروح - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شوفتكم بترد الروح

نشر فى : الأربعاء 28 سبتمبر 2016 - 8:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 28 سبتمبر 2016 - 8:45 م
التقت مجموعة من الصديقات صباح يوم سبت فى مكان تدخله الشمس فتلامس وجوههن من خلف الزجاج. بعضهن صديقات منذ سنوات وبعضهن جديدات على المجموعة. تحدثت الصديقات عن السياسة والشأن العام وحال الاقتصاد ووضع العائلات ونشاطات ودراسة الأطفال، وتبادلن بعض الوصفات وبعض أخبار الموضة. من ينظر إليهن من خارج المجموعة قد يرى سحابة فضية اللون تغلفهن، ونثرات براقة تحلق داخل السحابة مع كل ضحكة تتبادلها السيدات.

فى عصر اليوم التالى التقت إحداهن أصدقاء آخرين لم ترهم منذ سنوات، حتى إنها كانت تتساءل إن كانت قد غيرتهم السنين، لكنها سرعان ما وجدت أن الحديث يكمل حديثا كانوا قد بدأوه فى مدينة أخرى فى وقت يبدو الآن بعيدا جدا عن حاضرهم.

فى الأسبوع ذاته، اجتمع عدد من الأصدقاء فى وداع صديقة محبوبة اختارت أن تشق جزءا من طريقها بعيدا عن بلدها وأهلها. وقفت بين الناس تستمع إلى قصص وحكايات، قلبها يعتصر ألما من فكرة الرحيل ثم يتضخم فى صدرها مع جرعات الحب التى كان أصدقاؤها يضخونها خلال اللقاء.

بعد يومين تشاركت مجموعة مصغرة فى عشاء بسيط، مدت على طاولة سفرته أطباق من الطعام وكئوس من الحب والصداقة، فتناثرت نفس النقاط البراقة حولهم رغم عدم تناولهم لمواضيع استثنائية، فقد كان لقاؤهم شبيها بلقاءاتهم السابقة التى يسودها الدفء الإنسانى والشعور بالألفة.

يوم الجمعة اجتمعت صديقتان فى بيت إحداهما كما فعلتا دائما منذ أن كانتا طفلتين. لعب أطفالهما جميعا حولهما، بينما لاحظت الصديقتان كما تفعلان كل مرة أن أطفالهما اليوم يكبرون كما كبرتا هما معا. التاريخ يعيد نفسه وتضحك الصديقتان معا للمرة الألف فصداقتهما امتدت على عدة بلدان عاشتا فيها منذ قرابة الأربعة عقود.

***
كتب الكثير عن أهمية الصداقة والتساند والتعاضد والتعاون ومد الجسور، كما والكلمات الأخرى التى تعبر عن حاجتنا أحيانا للتعاطف وللاستناد إلى من نحب، بعض ما كتب كان دراسات فى علم النفس وعلم الاجتماع حول علاقة الفرد بالمجموعة وتأثير المجموعة على الفرد، وبعض ما كتب كان أخف علميا وأكثر أدبيا، فتناول وصف الشعور بالوحدة أو بالألفة، وصف أهمية الصداقات، بينما اختار البعض أن يصف خيبة أمله بمن حوله وعدم ارتياحه للمجموعة.

فى كل الحالات، هناك شق كامل فى مجال علم النفس والاجتماع والأدب يختص بالعلاقات الإنسانية، من الناس من كان من أكثرهم سوداوية كالمفكر الإنجليزى هوبز الذى قال إن «الإنسان هو ذئب للإنسان»، أو الفيلسوف الفرنسى سارتر الذى وصف الجحيم بأنه الآخرون، إلى توصيفات أكثر إيجابية وحتى شعبوية حين نقول مثلا إن «الجنة بلا ناس ما بتنداس».

***
لكل منا قدرة احتمال خاصة، كما يختلف مقدار حاجتنا إلى وجود الآخرين حولنا من شخص إلى آخر أو حتى من مرحلة إلى أخرى. لكن بعيدا عن الأدبيات المركبة، وعن طبقات من علم النفس تبحث فى علاقتنا بالآخرين، هناك شىء شديد البساطة فى أن نلقى بحملنا ولو لدقائق على أكتاف من نحب، أن نخلع عنا الرداء الرسمى ونفتح قلبنا وعقلنا فيدخل إليهما حب من أمامنا. هناك شىء ثمين نشعر أننا ربحناه كما يربح أحدهم الجائزة الكبرى حين نجلس مع من نحب، حين نسترخى خلال حديث عابر قد لا يحتاج إلى كثير من التركيز والتكليف، هناك شىء من اكسير الحياة مركز فى جلسة مع صديقة لا ماكياج على حديثنا معها.

هناك مهدئ طبيعى وغير ملموس فى نصف ساعة نقضيها مع صديق للعائلة، يعرفنا ويعرف شريكنا ووالدينا وأطفالنا ويرى حيرتنا فيسأل أسئلة دون أن يدعى أن لديه الحلول، فهو يدخل بأسئلته إلى عقلنا المزدحم فيختط فيه طريقا ويضع عليها إشارات مرور تنظم فوضى الأفكار وترتب فى رأسنا الأولويات.

***
مع الصديق أو مع المجموعة، هناك أريكة مخداتها مصنوعة من الصداقة، نغوص فيها ونبحث عن أكثر طريقة مريحة للجلوس لمدة دقائق، هى الدقائق التى نسأل فيها مجازا «كيفك وشو أخبارك»، إلا أننا سرعان ما نبدأ بالاسترخاء حتى إننا قد لا نشارك بالحديث بسبب تركيزنا على لحظتنا تلك: حولنا أصدقاء نحبهم بغض النظر عما نناقشه، هذا مكان يحتوينا وهؤلاء ناس تربطنا بهم محبة، هذه لحظة سوف نتذكرها بعد سنوات عديدة، فأنا مثلا قد بدأت فى أرشفة مواقف أريد أن أحتفظ بها فى قلبى لأفتحها كمن يفتح هدية فى المستقبل. أغلف ضحكة صديق بورق ملون حتى لا تفقد من رنتها مع السنين، أضع نظرة تلك الصديقة الحالمة فى علبة زجاجية ليتسنى لى أن أزورها حين أشتاق إليها أو إلى تلك المرحلة، أسجل فى ذهنى ملاحظة جميلة من الصديقة ذات روح النكتة، وأضعها على الرف فى قلبى قرب النظرة والضحكة.

مع سلسلة الأحداث الزخمة التى نمر بها وتكاد تطحننا يوميا، يتوقف بى الوقت مدة احتساء فنجان من القهوة مع صديقة لا عمر لها فهى صديقتى وصديقة والدتى، نسرق حلقة من مسلسل الحياة مع صديقات كلماتهن ملونة، نعود أطفالا مع تلك التى عرفتنا حين كنا فى عمر أطفالنا. أنظر إلى المجموعة وكأننى لست جزءا منها، فأرى أشعة الشمس تداعب وجوه الصديقات، ينفتح فى قلبى شباك صغير تدخل إليه كلماتهن وأسمع صوتا فى داخلى يقول لهن «شوفتكم بترد الروح».
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات