وجود (مون ويند) الصوفى فى فيلم (سول) ماكنش صدفة على الإطلاق.. لأن الصوفية والمتصوفة هما أكتر ناس وصفوا -وبكل تفصيل ودقة- لحظات الكشف.. ولأنهم أكتر من صال وجال وعرض واستعرض لحظات اتصال الجسد بالنفس، وبالروح، وبالكون كله..

ازاى؟ اشمعنا؟

كلنا بيعدى علينا أوقات فى حياتنا ننغمس داخل أنفسنا لدرجة الانفصال عن الحياة.. وده بيحصل بدرجات وأشكال مختلفة.. من أول اللى يسرح فى مشاغله وهمومه.. واللى يتقوقع حول خوفه وقلقه.. واللى يغرق فى شهواته وملذاته.. وغيرهم وغيرهم.. من الموجودين فيما أطلق عليه الفيلم مجازاً (أرض الأرواح التائهة)..

فيه بقى شوية حاجات ممكن تساعدنا نرجع لنفسنا تانى.. وتساعد روحنا انها تسكن جسدنا من جديد (تعبير مجازى بالطبع).. وتُجرى فى عروقنا دماء الحياة مرة أخرى..

من أهم الحاجات دى الصيام.. والسفر.. وسماع بعض أنواع الموسيقى.. والبقاء لفترة ما في مكان هادئ معزول عن ضوضاء العالم وتشويشه.. وتمارين الوعى واليقظة Mindfulness.. وبعض أنواع العلاج النفسي العميق.. وكل خبرات التصفية الروحية والجسدية.. وحاجة تانية مهمة اسمها (الأزمات النفس-روحية)..

إيه الأزمات النفس-روحية دى؟

فى علم الTranspersonal Psychology- علم النفس عبر الشخصي، فيه حاجة اسمها Psychospiritual crisis.. يعنى أزمات نفس-روحية.. وهى عبارة عن بعض الخبرات اللى ممكن أى حد فينا يمر بيها، واللى ممكن تكون فرصة اينفتح عليه فيها مستوى عميق وواسع جداً من وعيه.. يخليه يشوف بغير عيون.. ويسمع بدون آذان.. ويكتشف بدون قيود أو حدود.. ويتخطى كل حواجز الزمان والمكان..

أشهر هذه الخبرات على الإطلاق هى ما يسمى بتجارب الاقتراب من الموت Near-Death Experience.. واللى بيوصف بعض من مروا بيها انهم شافوا كل شريط حياتهم بيمر قدام عينيهم.. واللى بيوصف غيرهم انهم زى ما يكونوا دخلوا نفق مظلم كبير.. آخره نور قوى وساطع.. يختلف عن النور الدنيوى اللى نعرفه..

معظم اللى عدوا باللحظات دى، بيرجعوا الحياة مختلفين عما كانوا قبلها.. بيقرروا قرارات جديدة.. بيسلكوا مسارات مختلفة.. بينظروا للحياة نظرة غير اللى كانوا متعودين عليها..

كل ده بقى: الصيام.. والسفر والتأمل..و..و..وتجربة الاقتراب من الموت ممكن يوصلّنا للحظات (الكشف).. اللى أقدر أقول دلوقت إنها أعمق وأوسع من لحظات (الشرارة).. وخلينا دلوقت نشوف الصوفية وصفتها إزاى.. فى أروع وأبدع ما يكون.. وأعمق وأوسع من تناول الفيلم لها بكتير..

الصوفية بتتكلم عن اللحظات دى بشكل دقيق ومُفصل.. وبتفرّق بين إنها تكون (حال) مؤقت، أو تكون (مقام) دائم. بيقول الدكتور مصطفى محمود على لسان ابن عربي في كتاب )السر الأعظم)، إنها: «حالة تنمحي فيها الصفات المتقابلة، وتنمحي الجهات، ويكون الجمع بين الضدين. حالة تختفي فيها حدود الزمان والمكان.. ويصبح الإنسان وعيًا مطلقًا".

اللحظات دى بيوصفها برضه ستانيسلاف جروف -عالم النفس الشهير اللى اكتشف علم الوعى عبر الشخصى واللى اتكلم  فى كتبه كتير عن الصوفية- بمعاني شبيهة جدًّا في كتابه Psychology of the Future:

- Experiencing the “Mystical moment, which is called” “a time out of time within time, bringing the eschatological after world into the present”.

- خوض اللحظة الروحانية.. التي توصف بأنها: «زمن.. منفصل عن الزمن.. بداخل الزمن »، حيث تأتي الحياة الآخرة من المستقبل إلى الحاضر.

- A sense of time as pulse, including all times, rather than as objectified points on a line or circle. At this point, the classical Western notions of the strict separation of past, present, and future do not adhere.

إحساس بالزمن  (كنبضة) تحوي داخلها كل الأزمنة.. وليس كنقاط متتالية على خط أو في دائرة.. وقتها، لا تنطبق المفاهيم الغربية المعتادة عن الفصل الحاد بين الماضي والحاضر والمستقبل.

- Transcendence: reaching very highest and most inclusive or holistic levels of human consciousness.

التجاوز: الوصول لأعلى وأشمل وأكمل مستوى من الوعي الإنساني.

اللي بيوصل للحالة دي من الوعي، واللحظة دى من الحياة، بتنفتح عليه أبواب النور بشكل غير مسبوق..

وبتنهمر عليه الدلائل والمشاهدات من كل حدب وصوب.. وبيكتسب رؤية وبصيرة تعادل حياته كلها..

ده مش وصف لمعجزات روحية.. ولا لتجارب نفسية بعيدة.. ده وصف للحظات ممكن تعدى عليك وعليا كل يوم..

نرجع للفيلم.. ونفتكر.. ونتفكر..

دى الخبرة اللى كان فيها (جو) طول الفيلم.. تجربة (الاقتراب من الموت- غيبوبة طويلة متقطعة).. واللى راجع فيها كل حياته.. واخترق خلالها أعمق مستويات وعيه (وعى الحمل والولادة Perinatal Consciousness- الوعى عبر الشخصى Transpersonal Consciousness)

ودى اللحظة اللى (ويند) و(جو) و(22) شافوا فيها بعنيهم فيها المدير تائه الروح، وهو بيعيد اكتشاف معنى حياته، وبيسأل نفسه وهو غارق فى همومه ومشاكله: ما الذى أفعله بحياتى؟ واللى بعدها قرر يعيد النظر فى كل شئ، ويحطم قيوده وأكباله، وينطلق بحثاً عن حياة جديدة.. لها معنى حقيقي..

دى برضه اللحظة اللى توقف عندها (جو) فى آخر الفيلم.. لما عينه وقعت صدفة على اللى كان فى جيب بدلته.. واللى هو حصيلة ما تبقى من رحلة (22) لما كانت فى جسده، وبدأ يستعرض كل خبرة عاشها جسده مع كل حاجة من دول.. واللى انتهت بإنه اكتشف.. وفهم.. وبكى.. وسكن..

لحظات الشرارة.. لحظات الكشف.. لحظات النور..

لحظات تعرية النفس.. وارتجاف الجسد.. وسمو الروح..

لحظات التحليق فوق السماء.. وقدماك مازالتا على الأرض..

اللحظة اللى تشوف فيها كل حاجة كأنك تراها لأول مرة..

وتسمع صوتك الداخلى أعلى من أى صوت خارجك..

وتتحول حواسك الخمسة فجأة إلى رادارات لاقطة لرسائل الكون..

فاكر مرة فى بدايات حضورى التدريبى لجلسات العلاج النفسي الجمعى.. انى شوفت ضوء حجرة العلاج وكأنه زاد مرة واحدة لدرجة صدمت عينى وأبهرتها.. ولما قولت كده فى مناقشة ما بعد الجلسة.. دكتور رفعت ابتسم وقالى: دى بداية رؤية جديدة يا محمد.. دى بداية الإبداع..

هاختم بجملة من كتاب (الإنسان يبحث عن المعنى) لفيكتور فرانكل:

"لا يوجد شئ فى الدنيا يمكن أن يساعد الإنسان بفعالية على البقاء حتى فى أسوأ الظروف، مثل معرفته بأن هناك معنى فى حياته".

تقدر تلاقى معنى حياتك فى لحظة..

تقدر تلاقيه فى كل لحظة..

تقدر تلاقيه دلوقت..

بُص كده!

العودة لمواصلة القراءة

Soul أن يكون معنى حياتك.. لحظة..