لا يمكن لإنسان طبيعى أن يجادل فى حقيقة أن مصر لم «يعد فيها تعليم.. وإنما فيها جهل باهظ التكلفة» كما هو منسوب إلى أديبنا الراحل الرائع نجيب محفوظ عندما سئل عن أحوال التعليم فى البلاد ومجانيته.
وأمام هذه الحقيقة، فإنه لا يمكن لعاقل المجادلة فى حاجة مصر إلى إعادة بناء المنظومة التعليمية بالكامل حتى يمكن ضمان خريج قادر على «قيادة التوك توك» بطريقة تحترم القانون وقواعد المرور وتضمن سلامته وسلامة الناس من حوله، ناهيك عن تخريج جيل من الشباب القادر على التعامل مع أحدث تقنيات العصر وعلى المنافسة فى سوق عمل باتت عالمية.
لذلك فرغبة الدكتور طارق شوقى وزير التعليم فى إصلاح المنظومة التعليمية، هى رغبة مقدرة ومحترمة من كل ذى عقل راشد ورؤية مستقيمة. كما أن سعى الحكومة المخلص من أجل تفكيك مشكلات التعليم المتراكمة عبر سنوات، يجب أن يحظى بالدعم والمساندة من الجميع.
لكن ما يستحق المناقشة ويثير الاعتراض هو منهج السيد وزير التعليم والحكومة من ورائه فى التعامل مع فكرة إصلاح التعليم بنفس المنطق القديم الذى دفعنا له ثمنا باهظا فى صورة تدهور مطرد للتعليم وارتفاع كبير فيما تتكبده الأسرة المصرية من أعباء مادية ومعنوية لتعليم أبنائها سواء كان هذا التعليم تحت مظلة المدارس الحكومية المجانية أو تحت مظلة المدارس الخاصة.
فذات مرة خرج علينا وزير تعليم بقرار إلغاء السنة السادسة فى المرحلة الابتدائية، وانهالت على رءوسنا التحليلات والتصريحات التى تتحدث عن عبقرية هذه الخطوة وعن مثيلاتها فى أوروبا والدول المتقدمة، ثم تمر السنوات ليأتى وزير آخر ويعيد السنة السادسة، وتأتى نفس التحليلات ونفس التصريحات وربما من نفس الأشخاص فتتحدث عن عبقرية الخطوة وروعة الفكرة.
ثم يخرج علينا وزير تعليم فيعلن إلغاء شعب الثانوية العامة، وجعلها عامين بدلا من عام واحد، ويتحدث عن فاعلية هذه الخطوة فى القضاء على الدروس الخصوصية والارتقاء بمستوى الخريجين، فتكون النتيجة تسونامى دروس خصوصية يغرق البلاد والعباد، وتتكبد العائلات أعباء مالية ونفسية لا قبل لها بها، حتى يأتى وزير جديد فيلغى هذا النظام ويعيد الوضع إلى ما كان عليه.
وتأتى وزارة تقرر فتح مدارس «تجريبية» حكومية تقدم خدمة تعليمية باللغة الإنجليزية لأبناء الطبقة المتوسطة الدنيا الذين يبحثون عن خدمة تعليمية جيدة بتكلفة منخفضة، وتنجح التجربة ويزداد الإقبال عليها وتتحول المدارس التجريبية إلى مدارس رسمية للغات قبل أقل من ثلاث سنوات، ليأتى الوزير طارق شوقى فيقرر إلغاء مدارس اللغات الحكومية فى المرحلة الابتدائية دون أن يعرض على الناس مبررات هذا القرار وتقييم الخبراء لتجربة المدارس الرسمية للغات وهل فشلت فتقرر إلغاؤها أم كانت ناجحة فتقرر أيضا إلغاؤها؟
ثم نأتى إلى «أم الكوارث» وهى تحويل شهادة الثانوية العامة من سنة واحدة وامتحان واحد إلى 3 سنوات و12 امتحانا دون أى تطوير للبنية التحتية للمدارس ولا سد للعجز فى المدرسين ولا حتى تطوير مهارات المدرسين الموجودين فى الخدمة، ويقول الوزير إن هذا النظام سيقلص الدروس الخصوصية بنسبة 80% دون أن يقول لنا كيف سيتحقق ذلك، ولا كيف سيتفادى تكرار كارثة الثانوية ذات العامين.
وفوق كل ذلك يقول الوزير إن استراتيجية تطوير التعليم شأن حكومى بحت ولا شأن للمجتمع ولا حتى للخبراء المستقلين به، وأن النظام الجديد سيطبق رغم أنف المعترضين، مع أن التعليم، والتعليم بالذات قضية الشعب كله وحق المجتمع بالكامل وليست فقط قضية الوزير لأن هذا الشعب هو الذى دفع فى الماضى ثمن التجارب الفاشلة لإصلاح التعليم وهو الذى سيدفع فى المستقبل- لا قدر الله- ثمن فشل النظام الجديد الذى لم نعرف من الذى وضعه ولا كيف تم وضعه ولا حتى على أى أسس تم وضعه.