إبراهيم فتحى.. فى وداع ناقد كبير - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إبراهيم فتحى.. فى وداع ناقد كبير

نشر فى : الجمعة 4 أكتوبر 2019 - 10:30 م | آخر تحديث : الجمعة 4 أكتوبر 2019 - 10:30 م

رحم الله الناقد الكبير القدير إبراهيم فتحى الذى رحل عن عالمنا ظهر أول من أمس؛ بعد رحلة إنسانية ومعرفية وفكرية حافلة بالجهد الدءوب المثمر، والقراءة التى لا تنقطع، والنضال الشريف من أجل الوطن وأهله،
كان رحمه الله مثقفا كبيرا وناقدا عملاقا؛ من أبرز أبناء جيل الستينيات «الظاهرة» فى تاريخنا الثقافى المعاصر، أنجز العديد من الكتب والترجمات التى تشهد بواسع ثقافته، وعمق رؤيته، ووعيه الحاد المرهف، وإخلاصه الفكرى لقضايا وهموم مجتمعه؛ فضلا عن نضاله السياسى المكافح والمشرف؛ عبر سيرة نضالية طويلة امتدت لأكثر من خمسين عاما متصلة.
تكوينه المتكئ على معرفة فلسفية وفنية واجتماعية هى التى حددت فيما بعد مسارات إسهاماته وإنجازاته سواء فيما قدمه للمكتبة العربية من ترجماتٍ رفيعة المستوى لأعمالٍ فكرية ونقدية أصيلة، أو ألفه من كتب ودراسات تعالج ظواهر الإبداع والأدب المصرى الحديث والمعاصر منذ بداياته الباكرة وحتى أحدث الأجيال التى ما زالت تتحسس طريقها وتستشرف رؤيتها.
ولعل كتابه المرجعى القيم عن «نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية» (وهو الطبعة المزيدة من كتابه «العالم الروائى عند نجيب محفوظ» الذى صدر فى صورته الأولى عام 1978 عن دار الفكر المعاصر) من بين أهم خمسة كتب عن نجيب محفوظ بالعربية، فيما أظن، (والبعض يعتبره الأهم بإطلاق استنادًا إلى إعلانٍ صريح من نجيب محفوظ نفسه بأن كتاب إبراهيم فتحى هو الأهم عن أعماله الروائية والقصصية)، ذلك أنه من القلائل الذين قاربوا أعمال محفوظ، على كثرتها واتساع عوالمها، باعتبارها نصا كليا شاملا؛ صحيح أن كل نص منها يمثل وحدة مستقلة؛ لكنها وحدة مرتبطة عضويا بغيرها من النصوص السابقة واللاحقة؛ يصف إبراهيم فتحى رحمه الله عالم نجيب محفوظ الروائى بأنه «عالم قائم بذاته، يكاد أن يكون معادلًا للمجتمع الخارجى، ترتبط عناصره ارتباطًا سببيًا، ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى، وتلتقى ممراته الجانبية، وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسى، فكل وقائعه منتظمة فى إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص، وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية ومعاهدة سياسية، فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت فى شبكة من الدلالات الفكرية والانفعالات الجاهزة».
ولا أنسى أيضًا كتابه البانورامى الرائع عن «الخطاب الروائى والخطاب النقدى فى مصر» (الهيئة المصرية للكتاب 2004)؛ الذى أتصور أن القسم الثانى منه عن «نقد الرواية المصرية والمعاصرة بين الاتجاهات الواقعية والشكلانية»، من المحاولات الجادة التى تعد على أصابع اليد الواحدة فى مجال «نقد النقد» وفحص الخطابات النقدية المتنوعة التى أنتجها نقاد مصريون ينتمون إلى خلفيات معرفية وأيديولوجية مختلفة؛ ولعله (بعد جابر عصفور الذى يكاد يحلق منفردا فى هذا الحقل بدراساته العميقة عن أبرز وأهم نقاد الأدب فى مصر والعالم العربى من طه حسين إلى إدوارد سعيد)، أحد أهم المداخل النقدية الممتازة للتعرف على المشهد النقدى فى مصر خلال القرن العشرين؛ وحركيته من التيارات الرومانسية والواقعية وصولا إلى الواقعية الاشتراكية والتيارات الاجتماعية، وصولا إلى التيارات النقدية الشكلية الحداثية (النقد الجديد والبنيوية وما بعدها.. إلخ).
كان لديه رحمه الله قدرة استقصائية مدهشة تلملم الخيوط، وتنظم الشتات، وتستخلص الأفكار، وتسعى جاهدة مخلصة إلى رسم ملامح مشهد كلى منضبط محدد القسمات والأركان (سواء كان ذلك المشهد نقديا أو إبداعيا أو فكريا أو سياسيا.. إلخ)؛ وتصوغ كل ذلك فى خطابٍ نقدى محكم؛ بالغ العمق والسلاسة، رغم الكثافة الأسلوبية التى تميز بها فى عرض أفكاره، واكتناز خطابه بالمفاهيم التحليلية المستندة إلى معرفة وثقافة واسعة جدًا بكل تيارات الفكر والمعرفة والنقد فى الثقافة الغربية (راجع له «معجم المصطلحات الأدبية» وهو من المحاولات الباكرة المهمة فى تقديم إسهام عربى فى مجال المصطلح والمفهوم الأدبى والنقدى المتخصص).
ولم تفتر همته أبدًا، رحمه الله، فى متابعة النتاج الإبداعى بهمة ودأب حتى سنواته الأخيرة؛ يكتب ويحلل التيارات الجديدة فى الكتابة الإبداعية وينظر لها بوعى وتمكن، ومن يقرأ مقاله المهم عن «مسار التقنيات الروائية فى مصر» الذى نشره فى 2015، سيجد مصداق ما أقول..
رحم الله الناقد الكبير وأسكنه فسيح جناته. وإنا لله وإنا إليه راجعون.