فى دولة العصافير - داليا سعودي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى دولة العصافير

نشر فى : الجمعة 6 فبراير 2015 - 7:45 ص | آخر تحديث : الجمعة 6 فبراير 2015 - 7:45 ص

فى أول الليل، وقت مغيب الشمس مضرجة بالشفق الأحمر، تبدت أسراب الحمام النائم فوق قرميد المنازل كأنها كتابةٌ فرعونية. أكاد أرى رمزية السلام منقوشة على الأجنحة المطوية فى أمان. فإذا انفرد الجناح وحلقت الطيور مع مطلع الفجر، تجلت رمزية الحرية فى أتم صورها. وما بين الثنى والمد، تتكامل ثنائية السلام والحرية ليحكى الطير توق النفس الإنسانية للعيش الآمن تحت سماء الوطن. وبحكم مزاج شخصى يهوى مسرحة المعانى وتشخيص المجردات، برقت فى ذاكرتى نماذجٌ أدبية لطيور رسمها أدباؤها بملامحٍ آدمية.

•••

فى المدرسة الإعدادية، قدمتُ وأقرانى مسرحية «الطيور» للأديب الإغريقى أرسطوفانيس (446ق.م.- 386 ق.م.). اكتسينا بالريش الملون، وألصقنا الأجنحة بالشمع مثل إيكاروس، وقدمنا تلك الكوميديا السياسية الطوباوية، التى تقرر فيها الطيور إقامة مملكة جديدة قوامها المحبة بين كافة المواطنين، وأساس ازدهارها القطيعة مع الفاسدين، بعد أن طغى الظلم و البطش على أثينا واستغرق البشر والآلهة فى التسلط. وفى المملكة الجديدة الكائنة فوق السحاب، قررنا نحن الطيور أن لا مكان للانتهازيين المستغلين، ولا للكهنة المنافقين، ولا لمشتريى الأصوات فى الانتخابات، ولا للفلاسفة السفسطائيين، ولا للشعراء الأفاقين وبائعى الذمم على العتبات. وأما حق المواطنة فى المدينة الفاضلة فلن تمنحه الأطيار إلا لرجلين اثنين من بنى البشر، كان معنى اسم أحدهما «كرامة» والثانى «إنسانية». أتذكر تلك اليوتوبيا المسرحية الساذجة وأضحك من براءتنا... كم كانت أحلامنا الكبيرة كأحلام العصافير!

•••

أما الطائر الذى لا أنساه، وإذا ذكرتُه فى نفسى ابتسمت، فهو ببغاء الأديب الكولومبى جابرييل جارسيا ماركيز فى رائعته «الحب فى زمن الكوليرا». ببغاء أزعر، أجرد الجناح، سليط اللسان، لاذع الدعابة، ترتفع عقيرته بشتائم البحارة كأنه إنسى، ويتعالى صوته ليلا بنباح الكلاب لدفع اللصوص. علَّمه سيدُه الغناءَ بالفرنسية، ولقَّنه تلاوةَ مختاراتٍ من إنجيل متى باللاتينية. فكان إذا غنى أطلق حنجرته بصوت امرأة، واختتم شدوه بضحكات ماجنة. كانت مزاجيته الساخرة تتجلى فى اختياره متى يتكلم دونما أمر، ومتى يلوذ بصمت مطبق حتى لو استُجديت كلماته، لاسيما فى حضرة حاكم البلدة وكبرائها، حين أتوا بهيلهم وهيلمانهم لاستجلاء أمر مواهبه. وكان هو كمن أصابته لوثة عقلية منذ وقع فى حلة الطبخ على الموقد، وكاد ينتهى فى الحساء المغلى، فتقرر حبسه طوال الوقت فى قفصه النحاسى. فلما أفلتَ ذات صباح من وراء القضبان، أسلم جناحيه للريح ومن ورائه الخدم، وجعل يتقافذ فوق أغصان حديقة المنزل هاتفا : «يعيش الحزب الليبرالى! يعيش الحزب الليبرالى! فلتحيا الحرية!!». وهى الصرخة التى كانت كفيلة فى زمانها ومكانها بإلقاء مطلقها وراء شمس الساحل الكاريبى.

هذا الببغاء الماركيزى المتمرد، استُدعى رجالُ المطافئ للإمساك به، لكنهم لم يفلحوا. فظل طليقا بين الأشجار، متمتعا بنشوة الخروج من الأسر، مطلقا صيحاته الملتاثة. وفى اليوم التالى، كان سببا قدريا فى مقتل سيده!

•••

ولا يسعنى فى مجلسى هذا، فى حضرة الطيور النائمة فوق الأسطح، أن أنسى الطاووس الطائر فى قصة بهاء طاهر البديعة «لم أعرف أن الطواويس تطير». ما بين عنفوان معلقة عنترة بن شداد وشجون «أندلسية» أحمد شوقى، يبسط الكاتب سرديته الشجية بهدوء حكيم. ففى حديقة المنظمة الأممية بتلك الدولة الأوروبية، جلس الراوى يتأمل ماضيه كمغترب عمل لسنوات طويلة وسط غرباء، لتسلمه الغربة المادية إلى غربة روحية مزمنة. الحشائش التى أفلتت من آلة تشذيب العشب بقيت طويلة مذهبةَ الأطراف كأنها رماح عنترة. والطواويس الحرة الطليقة تزين المكان ببهائها و تشيع الفزع بنعيقها. و لا يقطعُ تيارَ الذكريات وثرثرة مع الجميلة الباسمة سوى سيارة المطافئ استُدعيت لإنقاذ طاووس قرر أن يخالف طبيعته الداجنة و يطير فوق أشجار الأرز العالية. كيف يصبح ذلك الطاووس المتمرد استعارة لمدافعة الخيبات العاطفية والحيرة الإنسانية، ومقاومة الانكسارات الوطنية والتحكمات الدولية وتحدى القمع السياسى السلطوى، كل ذلك فى آن واحد وبكل تلك السلاسة؟ ذلك شأن قلم بهاء طاهر وحده، الذى يُطلق طاووسه من شجرة إلى شجرة متحديا إرادة ضباط المطافئ. لكن مقتضيات رصد الواقع تحتم أن يقع الطاووس مستسلما فى شبكة صائده مع نهاية القصة، وكأنه يردد أبيات أمل دنقل فى قصيدة الطيور :

الطُّيُورُ التى لا تَطيرْ..

طوتِ الريشَ، واستَسلَمتْ

هل تُرى علِمتْ

أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ؟!

الجناحُ حَياة

والجناحُ رَدى

والجناحُ نجاة

والجناحُ.. سُدى!

•••

تلك المفارقة المحيّرة هى ذاتها التى تتراءى فى أسطورة «عصفور النار» فى باليه ستراڤينسكى الشهير. فذاك العصفور النادر هو نعمة ونقمة فى آن. وهى المفارقة الظاهرة أيضا فى رواية «أن تقتل طائرا بريئا» للأديبة الأمريكية نيللى هاربر لى، التى طرحت قضية الحقوق المدنية للسود فى الولايات المتحدة فى مطلع الستينيات. ففى مشهد رئيسى من تلك الرواية الأوسع انتشارا، يهدى البطل طفليه بندقية صيد، لكنه يحذرهما من خطيئة قتل العصافير. أيها الفتى، قد تمتلك البندقية، لكن دماء الأبرياء عليك حرام... تلك هى الحقيقة التى يجهلها كل إرهابى.

•••

...سيطلع النهار حتما، وتفيق الطيور من سباتها، فمتى أمنت على حريتها ووجدت من «يحنو عليها»، فعلا بعد قولٍ، فستصطف بقوة خلف النسر المجيد الذى وجدت رسمه فوق علمها، عندها لن يغلب دولة العصافير غالب. سيكون الجناح نجاة، سيكون الجناح حياة، وأرضا آمنة فيها كفايةٌ من الحَبِّ والحُب للجميع، فى وطن لا يُقتل فيه حملة الورود، ولا يُغتال فيه حماة الوطن.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات