درس القضاء الدستوري الألماني.. ليس بالأغلبية وحدها يشرع البرلمان! - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 10:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

درس القضاء الدستوري الألماني.. ليس بالأغلبية وحدها يشرع البرلمان!

نشر فى : الجمعة 7 يوليه 2023 - 7:35 م | آخر تحديث : الجمعة 7 يوليه 2023 - 7:35 م

مساء يوم الأربعاء الماضى، أصدرت المحكمة الدستورية الألمانية قرارا تاريخيا ألزم البرلمان الفيدرالى (البوندستاج) بتأجيل التصويت على مشروع قانون يسمى «قانون التدفئة» ويتعلق باعتماد اشتراطات جديدة لتدفئة الأماكن العامة والخاصة يقضى أهمها بالتوسع فى استخدام مصادر الطاقة المتجددة بحيث لا تقل نسبتها اعتبارا من ١ يناير ٢٠٢٤ عن ٦٥ بالمائة من إجمالى ما يسمى بمحفظة الطاقة (بمكوناتها غير المتجددة كالفحم والغاز الطبيعى والبترول والمتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح).
كان من المفترض أن يجرى التصويت على مشروع القانون الذى تقدم به الائتلاف الحاكم بأحزابه الاشتراكى الديمقراطى والخضر والديمقراطى الحر أمس، وأن ينصرف البرلمانيون بعده إلى إجازتهم الصيفية. وعلى الرغم من أن أحزاب المعارضة المتمثلة فى حزبى اليمين المحافظ المسيحى الديمقراطى والمسيحى الاجتماعى وفى حزب اليسار وفى حزب اليمين المتطرف «البديل لألمانيا» طالبت الائتلاف الحاكم خلال الأيام الماضية بتأجيل التصويت على مشروع «قانون التدفئة» بسبب ضيق الوقت المتاح للنقاش البرلمانى وبسبب الطبيعة المعقدة للتشريع فى مجال الطاقة ومحفظتها واستخدامات مصادرها، إلا أن ائتلاف المستشار أولاف شولتس وبضغط من حزب الخضر رفض التأجيل وتعامل باستعلاء وصلف بالغين مع المعارضة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل سحب الائتلاف الحاكم فى بداية الأسبوع الماضى المشروع المقدم لنقاش البرلمان واستبدله بمشروع آخر به الكثير من التعديلات والإضافات وتمسك بإجراء التصويت فى نهاية الأسبوع (أى يوم أمس).
فتعالت انتقادات المعارضة، وما كان من أحد برلمانيى الحزب المسيحى الديمقراطى، واسمه توماس هايلمان وهو من نواب الظل البعيدين عن المواقع القيادية داخل حزبه وغير المعروفين إعلاميا، سوى أن تقدم بطلب عاجل إلى السلطة الدستورية الأعلى فى ألمانيا، المحكمة الدستورية، يشكو فيه من كون حقوقه الأساسية كبرلمانى مهمته التشريع والرقابة لمصلحة الشعب تتعرض لانتقاص خطير بسبب تجاهل الائتلاف الحاكم للمقتضيات الموضوعية لمناقشة وتصويت البرلمان على القوانين. فى مذكرته للمحكمة، كتب هايلمان أن النواب يحتاجون إلى وقت كاف لدراسة مشروعات القوانين الجديدة، ووقت كاف لمناقشتها جماعيا فى جلسات عامة وفى جلسات اللجان المعنية، ووقت كاف للتواصل مع دوائرهم الانتخابية لاستطلاع آراء المواطنات والمواطنين ومع وسائل الإعلام لإخبار عموم الناس بما يعد ويناقش تحت قبة البرلمان، ووقت كاف للكتل البرلمانية لتنظيم الصفوف والتوافق على وجهة التصويت إن كان موافقة أو رفضا.
شدد الرجل على أن جميع هذه الحقوق الأساسية للنواب يتجاهلها الائتلاف الحاكم بإصراره على جدول زمنى مضغوط للغاية لمناقشة مشروع «قانون التدفئة» والتصويت عليه وعلى كون هذا التجاهل لا ينتقص وحسب من حقوق النواب المنصوص عليها فى القانون الأساسى (دستور ألمانيا)، بل ينتهك أيضا حقوق المواطنات والمواطنين الذين ينتخبون البرلمان للاضطلاع بمهام التشريع والرقابة على الحكومة نيابة عنهم. ثم ختم هايلمان مذكرته إلى قضاة المحكمة الدستورية بمطالبتهم بإلزام البرلمان تأجيل التصويت حتى تتحقق الشروط الموضوعية لنقاش لا ينتقص من حقوق النواب ولا ينتهك حقوق المواطن والمواطِنة.
• • •
لم تتوقع أحزاب الائتلاف الحاكم أن تتعامل المحكمة الدستورية بجدية مع طلب هايلمان، وهو تقدم به على نحو فردى ودون دعم جماعى لا من الكتلة البرلمانية للحزب المسيحى الديمقراطى ولا من كتل برلمانية معارضة أخرى. فإن كان قد سبق للمحكمة الدستورية أن تقضى بعدم دستورية بعض نصوص قوانين الانتخابات وأن تلزم البرلمانات بتعديلها قبل الاستحقاقات الانتخابية الجديدة وأن تقضى أيضا بعدم دستورية بعض القوانين أو التعديلات القانونية الجديدة وتلزم البرلمانات بتعديلها، فإن القضاة الدستوريين فى مدينة كارلسروه (مقر المحكمة) لم يسبق لهم التدخل لا لتأجيل ولا لإيقاف تصويت البرلمان على مشروع قانون وعادة ما تجنبوا أن تبدو المحكمة وكأنها تفتئت برأيها وتنتقص من حقوق السلطة التشريعية المخولة دستوريا بجميع صلاحيات مناقشة وإصدار القوانين وتعديلها ومناقشة الموازنة العامة واعتمادها والرقابة على أعمال الحكومة فى جميع تفاصيلها. توقع الائتلاف الحاكم أن يرفض القضاة الدستوريون الطلب، ولم تنتظر أحزاب المعارضة تدخلا يفرض تأجيل التصويت على مشروع «قانون التدفئة»، ولم تلتفت وسائل الإعلام بجدية إلى الأمر.
غير أن مساء الأربعاء الماضى حمل للنائب الشجاع توماس هايلمان ولأحزاب المعارضة مفاجأة سارة، وألحق بالائتلاف الحاكم هزيمة سياسية مدوية، وأرغم وسائل الإعلام على تغيير خريطة تغطياتها ومتابعاتها. فقد أصدر المجلس الثانى للمحكمة الدستورية الألمانية (وللمحكمة مجلسان ولكل مجلس ثلاث غرف) قراره بالموافقة على الطلب وألزم البرلمان بتأجيل التصويت على مشروع القانون مسببا ذلك باعتبارين رئيسيين. أما الاعتبار الأول فهو انتقاص الجدول الزمنى المضغوط الذى أصر عليه الائتلاف الحاكم للانتهاء من النقاش والتصويت البرلمانى وكذلك تعديلات اللحظة الأخيرة التى أدخلت على مشروع القانون من حقوق النواب فى توفر الشروط الموضوعية المنصوص عليها دستوريا للاضطلاع بمهام التشريع. وتمثل الاعتبار الثانى فى عصف الائتلاف الحاكم، بتجاهله لمطالب ممثلى المعارضة بشأن إتاحة المزيد من الوقت للنقاش ودراسة تفاصيل مشروع «قانون التدفئة» وتعديلات اللحظة الأخيرة، بالحق الدستورى للبرلمان الفيدرالى كالسلطة التشريعية الأعلى فى ألمانيا فى الفعل المتوازن بين الحكومة والمعارضة وحماية القيم الديمقراطية للنظام البرلمانى. وبينما ألزم القضاة البرلمان بتأجيل التصويت حتى تتوفر الشروط الموضوعية للتشريع ووجهوا إلى الائتلاف الحاكم ما أسمته وسائل الإعلام الألمانية «صفعة على الوجه»، إلا أنهم لم يحددوا للبرلمان موعدا بديلا للتصويت وتركوه لقرار البرلمانيين الذين طالبوهم بصون حق السلطة التشريعية فى الفعل المتوازن.
• • •
لم يتناول القضاة الدستوريون مشروع القانون بالتعليق على نصوصه واشتراطاته، وما كان لهم وهو لم يعتمد من قبل البرلمان ويصدر بعد. بل تناولوا بقرارهم السبل الدستورية لصون وحماية الشروط الموضوعية لعمل البرلمان المنوط به التشريع دون أن تتغول حكومة وتوظف أغلبيتها للعصف بحق المعارضة فى دراسة ومناقشة مشروعات القوانين والتصويت عليها دون عجلة من أمرها. فعل القضاة الدستوريون بقرارهم تأجيل التصويت على مشروع «قانون التدفئة» الضمانات المنصوص عليها فى القانون الأساسى الألمانى والتى تحول دون أن يتجاهل ائتلاف حاكم موظفا أغلبيته حق البرلمان فى النظام الديمقراطى فى الفعل المتوازن الذى يباعد بين الحكومة وبين ديكتاتورية الأغلبية ويضمن للمعارضة مهما قل عدد مقاعدها حقوقها فى تمثيل ناخبيها وناخباتها تشريعا ورقابة.
هو، إذا، درس بليغ من القضاء الدستورى فى مواجهة استعلاء وصلف من يختزلون الديمقراطية إلى حسابات الأغلبية والأقلية وحسب.

أستاذ علوم سياسية، بجامعة ستانفورد

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات