كما توقعنا، بدأ الرئيس السيسى حربه الثانية ضد الفساد عقب اطمئنانه لإنجاز مشروعه القومى الأول بافتتاح قناة السويس الجديدة فى 6 أغسطس الماضى.
الحرب الأولى ضد الإرهاب لم تحسم قطعا، ومن يتصور أن الدولة ستنهيها بالضربة القاضية واهم، فالمعركة مع الإرهاب فى صيغته «المعولمة» ستستمر سنوات، لكن النجاحات التى حققها رجال الجيش والشرطة فى مواجهته، أدت إلى تقليص مخاطره إلى حد كبير، ما وفّر الفرصة للالتفات إلى عدو آخر، ربما كان أكثر خطرا وضراوة واستنزافا لموارد الدولة وأصولها.
لماذا اعتبر مواجهة الفساد أكثر ضراوة وخطورة من التصدى للإرهاب؟ أقول لك..
خلال النصف الثانى من عمر نظام مبارك، حدث تحول نوعى فى منظومة الفساد، صار فيها النظام هو الراعى الرسمى للمنظومة كلها، يديرها بكفاءة باهرة، لم نلمسها فى إدارته لأى من مرافق الدولة ومواردها.
سمحت هذه الرعاية بأن تمتد أذرع الفساد فى كل الاتجاهات، وأن تنتقل من الشرائح العليا للبيروقراطية الحكومية إلى ما دونها، وتسابق للحاق بركابها فئات عدة كانت عصيّة على الإفساد، وشيئا فشيئا اتسعت الدائرة وتشابكت الخيوط، حتى صار المجتمع كله قائما على الفساد، وصرنا جميعا فاسدين بالصمت أو بالمشاركة، وتبدل مدلول الكلمات، حتى صارت الرشوة إكرامية وتفتيح المخ ضرورة لتسيير الأعمال، صار الفساد جزءا من بنية الدولة، وأسلوب حياة معتمد لدى غالبية المصريين.
تلك هى المعضلة التى تواجهنا فى هذه الحرب الشرسة.
ومن يتصور أن مطاردة عدد من مغتصبى أراضى الدولة أو محاكمة رجال أعمال فاسدين يعنى نهاية الفساد مخطئ، هذه مجرد قشرة خارجية لا أكثر..
الفساد الذى أقصده هو ذاك الذى يسمح باستيراد أغذية فاسدة تجلب الموت للناس بدلا من أن تسد جوعهم، هو الذى يسمح بابتلاع الأرض الزراعية وتجريفها ويزيد الفجوة الغذائية اتساعا، هو الذى يمنح تراخيص تعلية لأشخاص بالمخالفة لشروط البناء والمعايير الهندسية المتبعة، هو الذى يمنحك رخصة قيادة على الرغم من أنك لم تجلس خلف مقود سيارة مرة واحدة فى حياتك، هو الذى يمنحك وظيفة لا تستحقها ويحرم منها آخرين اكثر منك جدارة وموهبة، هو الذى يسمح باستيراد أدوية مغشوشة ويصنّع بدائل خالية من المادة الفعالة، فيقرب المرضى من الموت بدلا من أن يعدهم بالشفاء، هو الذى يخفى سجل قضية من محكمة فيشوش معالمها ويضيع حقوق الناس، هو الذى يمكّنك من الحصول على عدة بطاقات شخصية بوظائف ومهن مختلفة وكلها سليمة ومختومة بخاتم النسر، ويعينك على ممارسة كل أشكال النصب والاحتيال دون أن تطالك يد القانون، هو الذى يستفيد من تمدد العشوائيات واحتلال الباعة الجائلين للشوارع والميادين وسيادة قوانين الميكروباس على حركة المرور، هو الذى يفسح مجالا للغش الجماعى وتسريب الامتحانات واستنزاف موارد الدولة والناس فى سباق تعليمى عديم النفع والقيمة.
هو الذى يكرّس لقيم الفهلوة والحداقة والطلسقة، بديلا عن الجدية والاستقامة والإتقان.
هل عرفت الآن، لماذا تبدو الحرب على الفساد أشد خطرا وضراوة؟
هل تدرك حجم المقاومة المتوقعّة وشراستها بالنظر إلى حجم المستفيدين من الفساد والمنتفعين من بقائه؟
هل تدرك الآن أنا ليست معركة الدولة ضد جماعة أو فئة بعينها كما هو الحال فى المواجهة مع الإرهاب، إنها معركة الدولة ضد ذاتها، مواجهة مجتمع قائم على الفساد لذاته فى لحظة انكشاف وتطهر نادرة.
أنا وأنت شركاء بالصمت أو بالموالسة.. فلنبدأ بأنفسنا.