التعديلات التى دخلت على الدستور المصرى سنة 2007 جعلت المواطنة أساسا للنظام السياسى (مادة 1)، بيد أنها أبقتها مبهمة التعريف، محدودة النطاق، وهى أمور لابد من علاجها فى الدستور الجديد إن كان المقصود التأسيس لنظام يقوم على قدر أكبر من العدالة.
أما تعريف المواطنة فقد خلا منه الدستور، إذ لم ينص عليه ولم يشر إليه، وبالتالى أصبح التعريف العام للمواطنة باعتبارها تساوى المواطنين فى الحقوق والواجبات العامة هو الأساس، وهو مشكل من جهات، أولاها أن الدستور أوكل للمشرع القانونى تنظيم الجنسية (مادة 5)، والجنسية ركن المواطنة، فصار الدخول فى دائرة المواطنين بيد الأغلبية السياسية، التى يمكنها إعادة تعريف معايير استحقاق الجنسية، وإسقاطها عمن تشاء.
وإعطاء المشرع القانونى الصلاحيات الكاملة فى تنظيم الجنسية غير معمول به فى معظم الديمقراطيات باختلاف أجيالها، فالدستور الفرنسى الصادر سنة 1791 قسم أصحاب الجنسية لقسمين، أولهما الفرنسيون الأصليون أى أبناء الفرنسيين المولودون فى فرنسا، أو المولودون خارجها بشرط قسم الولاء، أو المولودون فى فرنسا لأهل غير فرنسيين بشرط الإقامة (الباب الثانى، مادة 2)، وثانيهما المجنسون، وقد بين الدستور وسائل الحصول على الجنسية، غير أنه أبقاها مطاطة بأن سمح للسلطة أن تجنس من تشاء إن رأت فى ذلك مصلحة عامة (الباب الثانى، مادة 3 و 4).
والدستور البرازيلى، الصادر بعد قرنين من الفرنسى، حصر سبل استحقاق الجنسية فى اثنين: الميلاد، ومعاييره فيه متشابهة مع الدستور الفرنسى (مادة 12، الفقرة الأولى)، والتجنيس، ومعاييره فيه محددة لا تترك مجالا للسلطة لتجنس من تشاء (مادة 12، الفقرة الثانية)، والتعريف الواضح لمعايير استحقاق الجنسية المصرية لابد منه، لئلا تكون الحقوق مبنية على أساس واه يسهل نقضه.
ثم إن التفرقة بين المواطنين الأصليين والمجنسين المنتشرة فى الدساتير تنبنى عليها مواقف قانونية، كأهلية شغل بعض مناصب الدولة ومنها منصب الرئيس، الذى يسمح الدستور الأمريكى لكل من «ولد على أرض الولايات المتحدة» أن يترشح له إن استوفى شروط الترشح الأخرى (المادة الثانية، فقرة 1)، فى حين أن بعض الدول الأخرى (وبينها مصر) تشترط تمتع الأبوين بالجنسية، وهذه الاختلافات قد تكون ناتجة عن سياقات سياسية مختلفة أو عن تعريف مختلف لماهية المواطنة والجماعة الوطنية، وهى قضايا تستحق النظر قبل صياغة الدستور الجديد.
ثانية مشكلات المواطنة فى الدستور محدودية الحقوق المترتبة عليها، والمقصورة على المساواة أمام القانون (مادة 40)، وأما عدالة هذا القانون، والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين التى تكفل لهم السيادة والعيش الكريم فى بلدهم فلا توجد لها تعريفات وضمانات دستورية كافية.
فالنصوص المتعلقة بالحريات المدنية تتسم بالعموم وكثرة الإحالة للقانون، واجتماع الصفتين يفرغها من مضمونها، فإن أضفنا انعدام الحديث عن الآليات الضامنة لهذه الحقوق فهمنا بعض أسباب الانتهاكات المتكررة لهذه الحقوق خلال العقود الماضية.
وبعض الدساتير تتبنى صياغات تحد من قدرة الدولة على انتهاك هذه الحقوق، كالدستور اليونانى الذى ينص على أن «اليونانيين لهم الحق فى التجمع السلمى غير المسلح» (مادة 11، فقرة 1) فيبقى الحق مطلقا، ثم يقيده فى فقرة تالية بإعطاء الشرطة الحق فى المنع المسبب بعض المظاهرات، وفق شروط نص عليها، ثم أحال الكيفات للقانون (مادة 11، فقرة 2)، وكذا فعل مع حرية الصحافة، فحصر الجرائم المؤدية لإغلاق الصحف (مادة 14).
والدستور الإيرانى ينص على حرية تنظيم التجمعات والمسيرات بشرط عدم العنف وعدم تهديد أصول الإسلام (مادة 27)، وبقاء تعريف النقطة الأخيرة غامضا يسمح بقدر من القمع كما رأينا فى الواقع الإيرانى فى العقدين الأخيرين، وأما الدستور البرازيلى فإنه يمتاز بالتفصيل الشديد فى هذه الحقوق، حتى أنه أفرد 77 فقرة (المادة 5) لتناولها، وتوضيح ضماناتها.
وأما الحقوق السياسية فإن الدستور المصرى يخلو من التعريف الشامل لها، ويبقى ما يقره منها متفرقا بين أبوابه المختلفة، كالحق فى التصويت، والذى لا يحدد الدستور شروط استحقاقه: أتقتصر على الجنسية أم ثمة شروط أخرى، وهو ما فتح بابا للجدل عن توافر أهلية التصويت للمصريين فى الخارج تأجل بتمكينهم من التصويت فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الحالية.
وثمة خلاف بين الدول الديمقراطية حول منبع هذا الحق، فبعض الدول كفرنسا تمنحه لكل حاملى الجنسية ممن وصلوا للسن القانونية، وبعضها ككندا يربطه بالتأثر بالسياسات، فيمنعه عما تجاوزت مدة إقامته خارج الوطن عددا معينا من السنوات، وبعضها كالولايات المتحدة يربطه بالضرائب فيفرضها على كل المواطنين بقطع النظر عن أماكن إقامتهم ويعطيهم جميعا معها الحق فى التصويت، والتعريف الدقيق لمنبع هذا الحق يتفرع عن تعريف لماهية المواطنة.
وأما الحقوق الاجتماعية فيقتصر الدستور المصرى على تأكيد دور الدولة فى كفالة الفرص المتكافئة لجميع المواطنين (مادة 8)، ومن ذلك كفالة التعليم المجانى (مادة 20) وكذلك «خدمات التأمين الاجتماعى والصحى، ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا» (مادة 17)، غير أن الإحالات للقانون فى هذه الحالات، وكذلك افتقارها للآليات التنفيذية يفقدها قدرا من مضمونها.
والظاهرة العامة التى تتميز بها الدساتير المكتوبة خلال العقود الثلاثة الأخيرة هى التركيز على الحقوق الاجتماعية، فالدستور البرتغالى يتناولها فى أربع مواد متتالية (من 63 إلى 71) يوضح فيها حقوق التأمين الاجتماعى والصحة والسكن والبيئة النظيفة والأسرة والأبوة والبنوة والمسنين وذوى الاحتياجات الخاصة، ويفصل كل منها فى عدة فقرات، والدستور الإيرانى يؤكد على مسئولية الدولة فى «توفير الضروريات الأساسية لكل المواطنين: المسكن، والغذاء، والملبس، والبيئة النظيفة، والرعاية الصحية، والتعليم، والتسهيلات اللازمة لتكوين الأسرة» (مادة 43)، ثم يضع ــ فى نفس المادة والتى تليها ــ هيكل النظام الاقتصادى الذى يمكن الدولة من الوفاء بهذه الالتزامات.
وأما الدستور البرازيلى فقد توسع فى تعريف الحقوق الاجتماعية بحيث صارت تشمل الحق فى التعليم والصحة والعمل والراحة والأمن والتأمين الاجتماعى وحماية الأمومة والطفولة ومساعدة المعدمين (مادة 6)، ثم شرع يفصل فى هذه الحقوق وضماناتها فى فقرات طويلة (مادة 7).
وأركان المواطنة واستحقاقاتها المشار إليها تمثل جوهر العلاقة بين المواطن والدولة، وبين أفراد الجماعة الوطنية، ولا شك أن هذه العلاقة تحتاج لإعادة نظر فى أعقاب الثورة، وتحتاج لأن ينصب الجهد حول تعريف المواطنة فى السياق المصرى، وبسط المفهوم لئلا يقتصر على المنصوص عليه فى المادة 40 من الدستور بالمساواة بين المواطنين أمام القانون، ولا شك أن أمرا كهذا يحتاج لوقت سمح به المشرع حين أمهل الجمعية التأسيسية ستة أشهر لصياغة الدستور، ولم تسمح به الأطراف السياسية التى تسمح لنفسها بإعادة ترتيب الخطوات لتكون انتخابات الرئاسة سابقة للدستور، ويكتب الدستور فى أسابيع محدودة.