لمصر لا لبورسعيد - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 2:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لمصر لا لبورسعيد

نشر فى : الخميس 9 فبراير 2012 - 8:50 ص | آخر تحديث : الخميس 9 فبراير 2012 - 8:50 ص

كأنما أصبح قدرا على مصر وثورتها أن تعيشا فى حالة من عدم الاستقرار المزمن، فما تكاد مصر تنجح فى كسر حلقة مفرغة من المشاكل حتى تصبح مجددا على شفا حفرة من الفوضى. فى الآونة الأخيرة كان ثمة تفاؤل حذر بمستقبل الأوضاع فى مصر، فهناك وزارة جادة مهما قيل عن رفض قطاعات مهمة من الثوار لها، وهناك تقدم محسوس فى الملف الأمنى، وهناك الأهم وهو وجود مؤسسة تشريعية منتخبة بغض النظر عن رضانا عن بنيتها من عدمه. فجأة وفى هذا المناخ من التحسن النسبى تحدث تلك الموجة من السرقات المسلحة واختطاف الأفراد بل والدولة نفسها كما فى حالة هويس إسنا وصولا إلى الكارثة المروعة غير المسبوقة فى تاريخ الرياضة المصرية بل والعالمية، والتى نجم عنها استشهاد ما يزيد على سبعين من خيرة شباب مصر ناهيك عن مئات المصابين.

 

وقد كان طبيعيا بل وضروريا أن تكون هناك ردود أفعال بمستوى بشاعة الحدث، تدين ما جرى، وتطالب بالقصاص العادل من المسئولين عنه سواء على نحو مباشر أو غير مباشر، لكن ما لم يكن طبيعيا هو عدد من ردود الأفعال غير المنضبطة أو المسئولة لما وقع. من ردود الأفعال هذه على سبيل المثال ما يتعلق بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى لاشك فى أنه المسئول الأول عما وقع بحكم مسئوليته عن إدارة شئون البلاد، لكن المسئولية السياسية شىء والجريمة الدنيئة شيء آخر، فقد نسبت قطاعات من الجماهير الغاضبة مما جرى إلى المجلس تواطؤه فيما وقع، والسبب أنه يريد بذلك إعادة تفعيل قانون الطوارئ (مع أن قانون الطوارئ مازال ساريا فى حالات البلطجة)، أو أنه يريد أن يثبت أن رحيله عن السلطة سوف يرتبط بالفوضى (مع أن حدوث الفوضى فى ظل إدارته شئون البلاد هو أقوى سند للمطالبين بتسليمه السلطة فورا أو فى أسرع وقت ممكن). وترتب على هذا الموقف من المجلس أن رددت المظاهرات شعارات مثل «لا نريد سوى رأسك أيها المشير أولا»، أو «الألتراس قالها خلاص رأس المشير هو الكأس»، أو «الألتراس أهلاوى وثورى رأس المشير هو الدورى»، لكن أخطر هذه الشعارات قاطبة هو ذلك العلم الكبير الذى عُلق على مدخل محطة مصر أثناء انتظار وصول القطار الذى حمل مشجعى الأهلى، وقد كُتب عليه «الجيش المصرى: أمامك الاختيار: الانحياز للشعب أو المجلس العسكرى»، وهو شعار خطير ليت من كتبوه يقدرون خطورته، إلا إذا كانوا هم أيضا من الفلول المندسة، وأخيرا وليس آخر فإن اتهام المجلس بالتواطؤ يحتاج برهانا أقوى من الشعور بكراهيته، ففى حالة اتهام الداخلية بالتقصير كانت ثمة شواهد مثل عدم تفتيش المشجعين قبل دخولهم الملعب، والسماح بدخول «بلطجية» من خارج المدينة بما فى ذلك بين الشوطين، وتقاعس قوات الأمن عن القيام بدورها منذ ما قبل بداية المباراة وحتى وقوع الكارثة، وبعض الأقوال المنسوبة لضباط شرطة يحملون رتبا عالية ويشاركون فى التحريض ضد جماهير الأهلى.

 

●●●

 

لكن أخطر ما حدث من ردود أفعال يتعلق بإلصاق تهمة ما حدث بأبناء بورسعيد، تلك المدينة التى وقفت جماهيرها فى مشهد مهيب ليلة مؤامرة المرشدين الأجانب على قناة السويس بعد تأميمها فى 1956 تشد من أزر مرشدى مصر الأبطال فى أولى خطواتهم لقيادة قوافل السفن العابرة فى قناة السويس، ثم لعبت دورا تاريخيا فى حماية أرض مصر من الهجوم البريطانى ــ الفرنسى 1956، فدُمِرَت مبانيها، وسقط من أبنائها شهداء ولكنهم «أحياء عند ربهم يرزقون»، ثم خاضوا أروع معارك المقاومة الشعبية حتى رحلت قوات الاحتلال بعد أقل من شهرين من بدء العدوان.

 

تصاعد الاتهام للمدينة باتهام جماهير النادى المصرى أولا، ثم عدلت التسمية إلى جماهير بورسعيد التى تحدث الإعلام المشبوه عن وحشيتها وهمجيتها، ثم طالت الاتهامات المدينة بأكملها على إيقاع الإعلام الرياضى الذى استولى عليه الدخلاء على المهنة الإعلامية فى القنوات الفضائية، والذى يتميز بانفلات لا يصدق، وسوابقه معروفة فى كوارث سابقة مثل أحداث مباراة مصر والجزائر الشهيرة التى بدأت مسئولية هذا الإعلام عنها بالشحن والتحريض وإهانة الجزائر رئيسا (هل تذكرون «شد اللحاف يا بوتفليقة»؟) وعلما وشعبا، ثم استمرت المسئولية أثناء تغطية الأحداث فيما كان الإعلام من النوع نفسه على الجانب الجزائرى يقوم بالدور ذاته، واستمرت الاتهامات وتصاعدت بشكل شديد البذاءة كما تشهد بذلك شعارات مكتوبة فى ميدان التحرير.

 

بدت هذه الاتهامات للمدينة وأبنائها مناقضة لذاتها ولمجريات الأحداث، فأما التناقض الداخلى فمرده أن هذا الاتهام يتعارض مع اتهام المجلس العسكرى والداخلية وفلول الحزب الوطنى بالمسئولية عما جرى، وأما التناقض مع مجريات الأحداث فلأن الغالبية العظمى من أبناء بورسعيد لم تشارك فيها اللهم إلا بسلوك إيجابى مسئول. صحيح أن قطاعا واسعا من جماهير النادى المصرى لابد وأن يكون مسئولا عما وقع، أو على الأقل عن الانسياق للمحرضين والقتلة، لأن أعداد الذين نزلوا إلى الملعب تفوق العشرة آلاف، ولا يمكن أن يكون هؤلاء كلهم من «البلطجية»، لكن شباب بورسعيد سارع إلى نقل المصابين إلى المستشفيات فى سياراتهم، والتبرع بدمائه من أجل إنقاذهم حتى لم تعد هناك حاجة إلى مزيد، وفتح أهل بورسعيد أبواب بيوتهم لحماية بعض مشجعى الأهلى من مطاردة القتلة و«البلطجية»، وأعطوهم من الملابس ما يساعد على إخفاء هويتهم حماية لهم فى هذه الظروف، وحطم متظاهروها أحد المقاهى الذى يملكه رجل أعمال قيل إنه موَل أعمال البلطجة، وإنه ينتمى إلى فلول النظام البائد، وغير ذلك الكثير. وقد صُدِمَ أبناء بورسعيد بما وقع وبهذه الاتهامات الظالمة، فخرجوا فى اليوم التالى فى مظاهرات تحمل شعارات مثل «بورسعيد بريئة...دى جريمة دنيئة»، و«سامحنا يا شعب مصر.. بورسعيد بتحب مصر»، وحملت سيدات بورسعيديات وقورات لافتة مكتوبا عليها «بورسعيد مصرية ماهياش يهودية».

 

●●●

 

ثم إن ما حدث لا يمكن فصله بأى حال من الأحوال عن مناخ التعصب الرياضى عامة والكروى خاصة الذى يسود الساحة الرياضية المصرية منذ سنوات عديدة، ويؤدى إلى أعمال شغب وتخريب تمر فى كل مرة مرور الكرام، وربما سمح هذا المناخ من التعصب الممجوج بتحرك من يريد بثورة يناير شرا، بدليل الأحداث المماثلة التى شهدناها فى الشهور الأخيرة ــ وإن كان لا وجه للمقارنة بينها وبين الجريمة التى وقعت فى بورسعيد ــ بدءا بمباراة الزمالك والأفريقى التونسى وانتهاء بمباراة الأهلى والمحلة، وقد امتدت ظاهرة التعصب بطول البلاد وعرضها حتى أصبحنا نسمع عن اقتتال فى أعقاب مباراة بين ناديين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، بل إننا لا يجب أن ننسى فى خضم المأساة الإنسانية التى وقعت وصدمتنا جميعا فى سقوط هذا العدد غير المسبوق من الشهداء من جماهير الأهلى أن هذه الجماهير فى آخر مباراة بين الناديين فى مدينة بورسعيد قد حطمت محطة سكة حديد بورسعيد وعددا من المحال المحيطة بها، كما يجب ألا ننسى تلك اللافتة المستفزة التى حملتها جماهير الأهلى فى المباراة الأخيرة (بلد البالة.. ماجابتش رجالة) والتى كانت سببا إضافيا فى اشتعال الموقف، وإن كانت لا تبرر ما وقع من جريمة نكراء بطبيعة الحال.

 

قد لا يفطن الكثيرون إلى خطورة اتهام مدينة مصرية بسلوك القتل والبلطجة، لأن معنى هذا أننا نسير بخطى حثيثة فى طريق تمزيق الدولة المصرية، ففى البدء كانت محاولة الوقيعة بين مسلمى مصر وأقباطها، وها نحن الآن نتحدث عن صراع مدن أو أقاليم، وقد هدد ألتراس النادى الأهلى لدى استقبالهم مشجعى ناديهم العائدين من بورسعيد أنهم سيقتصون من أى فريق من محافظات القناة(!) فى المباريات المقبلة فى استمرار واضح لظاهرة أخذ كل منا القانون بين يديه، وبالمناسبة فإن الألتراس علامة استفهام كبيرة. صحيح أن فيها من فيها من العناصر المحترمة من شباب مصر، لكن سجل قواعدها فى مجال أعمال الشغب والتخريب منذ ما قبل الثورة أكبر من أن ينسى، ولقد أعطتها مشاركتها فى الثورة «شرعية» جعلت تصرفاتها خارج نطاق النقد، وتلك مسألة فيها نظر.

 

ولأن ثمة اتفاقا على أن كارثة بورسعيد ليست مسألة كروية فإن المهم الآن ــ جنبا إلى جنب مع تحديد المجرمين والمقصرين والقصاص منهم ــ أن يكون هناك مخرج سريع ومأمون من الأزمة السياسية الراهنة فى مصر، وهذه قصة أخرى. وليسامحنى الأستاذ هيكل على التأسى على نحو غير مباشر بعنوان واحد من كتبه الفارقة فى اختيار عنوان هذا المقال.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية