عناصر الطريق الرابع - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عناصر الطريق الرابع

نشر فى : الأربعاء 9 مارس 2011 - 10:35 ص | آخر تحديث : الأربعاء 9 مارس 2011 - 10:35 ص

 فى منتصف ديسمبر 2010 تناولت ما تردد من نداءات إلى الأخذ بطريق ثالث، يتوسط المسافة التى بين الطريقين الرأسمالى والاشتراكى، على ضوء ما أثبتته الأحداث من تراجع عما يندرج تحت راية الاشتراكية بأطيافها المجربة فى أوروبا، شرقيها وغربيها، ومن أزمات أثبتت أن الرأسمالية فى صيغتها الليبرالية مهددة بأن تصبح نهاية للرأسمالية ذاتها، وليس نهاية التاريخ. وقد أوضح استعراض الطريق الثالث كما نودى به فى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، أن التسمية كانت نوعا من إعادة تغليف البضاعة القديمة بغلاف جديد. وبغض النظر عما شاب التطبيق من موازنات بين القوى المؤيدة للطرق الثلاثة فإن الفلسفة التى حكمت دعاوى الطريق الثالث قامت على التسليم بالرأسمالية والأسواق كأساس للمجتمع رغم تغليبها لنزعات الأنانية، والاستجابة لتداعيات العولمة وما تقضى به من فتح الحدود أمام انتقال السلع والخدمات ورءوس الأموال مع تقييد انتقال البشر لأغراض العمل.

ولكنه لم يلجأ فى سبيل تصحيح آثار مظالم سوء التوزيع إلى المفهوم الكلاسيكى للعدالة الاجتماعية الذى تبناه الطريق الثانى القائم على إعادة التوزيع وما تتطلبه من إثقال كاهل ذوى الدخول العليا وبخاصة الرأسماليون بالضرائب المرتفعة، لتمويل الخدمات الأساسية والاجتماعية التى تقدم إلى العاملين ذوى الدخول الأدنى، وتوفير فرص العمل لهم. على أنه أقر ما تبناه الطريق الأول من إضعاف نقابات العمال وتجنب تضخم الأجهزة البيروقراطية وتشديد قبضة الحكومة وقيود التخطيط. ودعا إلى الجمع بين الاستقرار الاجتماعى والديناميكية الاقتصادية وطالب الفرد أيا كانت حصيلته التعليمية ومؤهلاته العملية ومكانته الاجتماعية بأن يكتسب روح الريادة ويصبح مسئولا عن مصيره فى سوق العمل، وتحمل مخاطرها دون إلقاء اللوم على قصور هياكل المجتمع.

لذلك ركز على التعليم والاستثمار فى رأس المال البشرى، وطالب الدولة بأن تعتمد إستراتيجية الاحتواء بمنح الفرد فرصة للانخراط فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتكيف مع الهياكل الاقتصادية والاجتماعية التى تحددها المرحلة التى بلغتها العولمة. وبناء عليه يحوَّل العديد من المرافق العامة التى كانت تعتبر من السلع العامة التى يتحدد التعامل فيها بعيدا عن قوانين السوق، إلى أنشطة ربحية يتولاها القطاع الخاص. كما يحرر التعامل فى الخدمات الاجتماعية داخل حدود الدولة وعبر الحدود. ويطالب العمال بأن يساهموا فى تدبير احتياجاتهم الخاصة خلال فترة تقاعدهم، بما فى ذلك امتلاك السكن، وما يلزمه من السلع المعمرة، ولو من خلال الاقتراض. وأدى ذلك لتوسع غير مبرر فى القطاع المصرفى، وفى المشتقات التى أفضت إلى الفقاعات التى فجرت أزمة لا تزال تداعياتها تهدد استقرار الاقتصاد العالمى. وتكتمل الصورة بفتح الأبواب أمام حركة رءوس الأموال التى تمكن عابرات القوميات من السيطرة على أسواق الدول ذات الاقتصادات المحدودة. وهكذا بعدت الشقة بين الطريق الثانى والطريق الثالث الذى أعاد إخراج الطريق الأول فى ثوب قشيب.

●●●


واضح أن الطريق الثالث على هذا النحو صمم على نحو يخدم دولا بلغت مراحل من التقدم لمساعدتها على الاحتفاظ بدورها كطليعة لعملية التطور فى عالم متعولم يدفع مسيرته التحكم فى الثورة التكنولوجية التى تجلى أحد نواتجها فى ثورة 25 يناير. وهو بالتالى لا يصلح لمجتمع مازال يجاهد لكسر قيود التخلف وإحداث تغيرات جوهرية فى كل جوانب الحياة البشرية, ومن هنا كانت الحاجة إلى طريق بديل، أطلقنا عليه الطريق الرابع، ينطلق من فكر مجتمعى شامل وليس من الفكر الاقتصادى الذى أفضى إلى الطرق الثلاث السابقة. وإذا كان الطريق الثالث قد بنى على قاعدة تطوير النظام الرأسمالى الفردى، فإن هذا البديل يجب أن ينطلق من قاعدة اشتراكية مجتمعية. وبينما يدعو الطريق الثالث إلى إدارة سياسية تقوم على تحالفات طبقية وفق ديمقراطية غربية مع توجه مباشر أكبر إلى الناس، فإن الطريق الرابع يتطلب مشاركة فى اتخاذ القرارات على مختلف المستويات. وبينما ينظر الثالث إلى البلد كوطن منفتح عالميا فإن الفجوة التى تعانى منها البلدان النامية تستدعى نظرة قطرية إلى الوطن فى إطار إقليمى مترابط. وفى حالة مصر فإن هذا يؤكد أهمية تعزيز موقعها فى كل من الحلقتين العربية والأفريقية، لتشكيل تجمع يساير ظواهر العولمة باقتدار. وإذا كانت الدرجة من الرقى التى حققتها المجتمعات الآخذة بالطريق الثالث تتيح للفرد الجمع بين إطلاق حرية التصرف وتقييدها، فإن الطريق الرابع يدعو إلى تحرير الفرد فى إطار مجتمعى مترابط. وبينما يذهب الطريق الثالث إلى تشجيع المجتمع المدنى وإشراكه مع السوق والدولة، بينما يسلم بإضعاف دور النقابات فى سياق تعزيزه لمكانة الفرد، فإن الطريق الرابع يفرض وضع المجتمع المدنى فى موضع مناسب من التنظيم المجتمعى، ويعمل على تعزيز قدرات النقابات على المشاركة فى إدارة شئون المجتمع. وإذا كان الطريق الثالث قد قبل إعادة هيكلة جهاز الحكومة وتقليص دورها المباشر، فإن الضعف الهيكلى لمؤسسات الدول التى تختار الطريق الرابع يقتضى حصولها من تفويض من المجتمع مع إخضاعها لرقابة فعالة لتجنب الفساد.

ويعتمد الطريق الثالث على ديناميكية السوق وتشجيع جانب العرض بسياسات غير مباشرة، وهو ما اتضح أنه يقود إلى أزمات ويعوق الخلاص منها. ولذلك فإن الأمر يقتضى السيطرة على قوى السوق والأخذ بتخطيط توجيهى، لا يقف عند مجرد التأشير ولا يذهب إلى حد الإلزام. كما أنه يجب تجنب الاكتفاء بإعلاء شأن الكفاءة الاقتصادية، بل يجب تبنّى مبدأ الكفاءة المجتمعية الشاملة للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية على نحو ما بينا فى مقالنا السابق. وينبغى تجاوز التنمية مفهوم تطوير البنيان الاقتصادى اعتمادا على المبادرات الفردية، لتصبح نهوضا بالبنيان المجتمعى، بقيادة قطاع عام يطلق قوى الإبداع. كذلك لا يقتصر مفهوم استدامة التنمية على معالجة المحددات البيئية، بل لا بد من تأمين التواصل البشرى عبر الأجيال، فى مجتمعات ترتفع فيها نسبة الشيوخ، وتتيح الثورة التكنولوجية فرصا أوسع أمام الشباب. ومقابل اقتصار الطريق الثالث على إشراك الأفراد فى تدبير مطالب رفاهيتهم، ينبغى اعتماد إستراتيجية لرفع نوعية الحياة بأبعادها المادية والمعنوية، الحالية والمستقبلة.

●●●

ولا يجب الاقتصار على تمكين الفرد من المساهمة بصورة أساسية فى توفير الضمان الاجتماعى، بل لابد من تعزيز التكافل الاجتماعى، وما يتضمنه من دعم الحركة التعاونية. وفى هذا السياق لا يصح اعتبار أن البعد الاجتماعى هو مجرد تصحيح لشوائب تترتب على تغليب الكفاءة الاقتصادية المجردة، بل يجب معاملته كعنصر أصيل له كفاءته وعدالته. ومن ثم فإن الأمر لا يتوقف عند مجرد ضمان تكافؤ الفرص وترك الفرد يكافح لاقتناص نصيبه منها، بل ينبغى تحقيق العدالة الاجتماعية ليس بمعنى العدالة الاقتصادية الشائع، وإنما بقيام المجتمع بتمكين أعضائه من الاستفادة من تلك الفرص. وينبغى النظر إلى التعليم ليس كمجرد استثمار بشرى يزود الأفراد بقدرات مجدية، وإنما كسبيل إلى خلق مجتمع معرفى وتنشيط قوى الإبداع. ومن ثم فإن كلفة التعليم لا يقع عبؤها على الفرد المستفيد مباشرة أو بطريق غير مباشر، بل هى مسئولية مجتمعية. بالمثل لا تقتصر مسئولية البحث العلمى على الجهة المستفيدة بما يؤدى لاستئثار الشركات العملاقة به، بل لا بد من خضوعه لتوجيه الدولة فى سياق تعاون إقليمى.

●●●

إن هذا المنحى يرفض الانصياع لثقافة تعلى من شأن النمط الغربى للحياة، ويستوجب تنظيف الثقافة الذاتية وتطويعها لمتطلبات إقامة مجتمع ناهض اجتماعيا ومتقدم اقتصاديا ومشارك فى ركب الحضارة الإنسانية. ولعل فى مناقشة ما تقدم ما يغذى المناقشات حول دستور يليق بمصر القرن الحادى والعشرين.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات