مزامير داود - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مزامير داود

نشر فى : الجمعة 19 فبراير 2021 - 6:35 م | آخر تحديث : الجمعة 19 فبراير 2021 - 6:35 م

داود النبى، أحد الأنبياء الذى اتفقت عليه اليهودية والمسيحية والإسلام، وذُكر فى (التوراة– الإنجيل– القرآن)، ولقد كان داود النبى شاعرًا وموسيقيًا ورجل دولة متفردا، وقد توقفت منبهرًا أمام أحد مزاميره التى يحكى فيها صراعه كإنسان يؤمن بالله وقريب منه، فى قصيدة طويلة يحكى فيها خبرته الروحية.
يقدم لنا النبى داود فى قصيدته الملحنة أربعة طرق سلكها للهروب من الله، لكنه دائمًا كان يجد الله فى نهاية الطريق، يقدم لنا النبى داود تصوره أو فهمه لله والذى اكتسب ملامحه من آبائه وأجداده ومعلميه ويحكى كيف تطور فكره أو تصوره مع الزمن.
فى البداية يحكى ما اكتسبه من آبائه وأجداده عن الله، فالله موجود وحى وأنه يَعد عليه أنفاسه، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عنه، وسوف يُقيم أفعاله فى النهاية إيجابًا كانت أو سلبًا، وبالطبع هذه المعلومة توارثها داود النبى كما توارثناها نحن والبشرية جمعاء، لذلك جاءت المحاولة الأولى التى يصورها فى مطلع قصيدته بقوله «يا ربُ قد اختبرتنى وعَرَفتَنى. أنت عرفت جلوسى وقيامى، فَهمتَ فكرى من بعيد، مسلكى ومربضى ذرَّيت، وكلَّ طُرقى عرفت، لأنه ليس كلمة فى لسانى إلا وأنت يا رب عَرفتَها كُلهَا. عَجيبةٌ هذه المعرفة فوقى ارتَفعَت لا أستطيعها».
بعد هذه المقدمة يرصد أربع محاولات يقوم بها الإنسان للهروب من الله الذى يحاصره، أولها هروب الإنسان إلى المثالية الإنسانية، وتحقيق الإنسان الكامل المثالى يقول: «إن صَعدت إلى السماوات فأنت هناك» (يقصد بالسماوات أعلى وأبعد نقطة عن الأرض)، وهنا يحاول داود تحقيق العدالة المطلقة، السلام الشامل، المعرفة الكاملة... إلخ، لكن الإنسان رغم تجاربه فى هذا المجال– كما نعلم– لم يحقق هذا الكمال.
لقد تحدث أفلاطون عن المدينة الفاضلة، الدولة المثالية وفى عصرنا الحالى تحدثت أمريكا عن «نهاية التاريخ» والذى تلخص فى الديمقراطية والرأسمالية والحضارة الأوروبية لكن مع الأسف سقط هذا التصور كنهاية التاريخ.
يرصد النبى داود محاولة أخرى عكس الإنسان المثالى والدولة المثالية بكل زخمها هى الهروب من الله بالتخلص من الحياة فيقول: «إن فرشت فى الهاوية (القبر) فها أنت، إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر» محاولة الإنسان تحقيق ذاته بعيدا عن الله، وهذه الفلسفة سُميت بـ«العدمية» وتُقَدم على أن الوجود عبء، وعلى الإنسان أن يتخلص من هذا العبء (الحياة)، هناك من يفجّر ذاته لأن العالم فاسد ومنتهى الصلاحية، وهناك من يركب البحر فالشباب الذين يركبون البحر ويعبرون المحيط يقولون إما أن نموت فى البحر أو ننقذ على الشاطئ الآخر، وهذه فكرة عدمية بحتة وقد فلسف هذه العدمية ألبير كامو، لكن العدمية لم تنجح فى إخفاء الإنسان بعيدًا عن الله.
لكن هناك دعوة ثالثة للهروب من الله إلى التحديث والتقنية، يقول داود «إن أخذتَ جناحى الصُبح وسكنتُ فى أقاصى البحر فهناك تهدينى يدك» وهنا الهروب إلى الحضارة الحديثة والتقنية والتكنولوجيا، وهذا حُلم الإنسان للتقدم والتطور، الوصول إلى القمر والمريخ والكواكب الأخرى، إنها محاولة الحضارة الحديثة تحقيق المعرفة الكاملة، لكن هذه المعرفة ينقُصها المعنى «معنى الوجود» لقد اكتشف الإنسان أن المعرفة لا نهاية لها، لذلك تركت الإنسان بلا شبع لافتقاده القيمة الحقيقية من وراء كل ذلك.
جاءت المحاولة الرابعة والأخيرة فى الهروب من الله إلى اللاوعى، يقول داود فى قصيدته: «فقُلت إنما الظلمة تغشانى فالليل يضىء حولى» عندما لم يجد الإنسان مهربًا من الله أراد أن يبعده عن وعيه، محاولًا نفى وجوده أصلًا، «الملحدون واللادينيون». لقد ثبت فى النهاية لداود أنه فى كل طريق حاول فيه الإنسان الهروب من الله فوجئ بالله فى نهاية الطريق.
عند هذه النقطة، نقطة فشل الهروب من وجه الله كما يصورها النبى داود، بدأ الإنسان يحاول أن يتعايش مع فكرة وجود الله، فطالما لم يستطع الهروب إلى المثالية الإنسانية ولا الهروب إلى الفناء، ولا التحديث أو التقنية، ولا حتى الهروب إلى اللاوعى، فالأنبياء حاولوا الهروب من رسالتهم لثقلها عليهم، والمصلحون الاجتماعيون كذلك، بل والقديسون والملاحدة لكنهم جميعًا وجدوا الله فى نهاية طريق هروبهم.
***
هنا يرصد داود النبى ثلاث طرق للتعايش مع الله، الطريقة الأولى هى التعايش مع الله فى عظمته ومجده وكبريائه، وروعة ودقة عمله فى خلق الإنسان يقول: «لأنك أنتَ اقتنيتَ كُليتى، نسجتنى فى بطن أمى، أحمدك من أجل أنى قد امتزت عجبًا». الكليتان هنا فى الثقافة العبرية القديمة هى مركز الفكر والمشاعر والتى استبدلت بعد ذلك بالقلب للمشاعر والعقل للتفكير.
بدأ الإنسان هنا يتحدث عن الله الحكيم، فحكمته وقوته تقهر الرعب، الله الجميل الذى نراه فى عيون الأطفال وبراءتهم، وفى لوحات الفنانين وإبداع الموسيقار، الله مصدر الجمال فى الطبيعة (الجبال والبحار) إله السلام، والمعجزات، فإذا قبلنا الدعوة وتبنا إلى الله سوف يعتنى بنا وبعقولنا فهو إله العناية والحكمة والجمال، نحن أولاد الله المحفوظون فى يده وقد أطلقوا على هذه الحركة فى الغرب «لاهوت الرفاهية» أى إن الله يعتنى بأولاده «يدللهم» صحة وغنى وقوة، وفى الشرق التركيز على حفظ الله وعنايته العظيمة لشعبه الذى يؤمن به، ينقذهم من الشر يشفيهم من المرض، ويقيهم ويحارب حروبهم ويقتل أعداءهم. لكن هؤلاء اصطدموا بالكوارث والزلازل والحوادث والهزيمة وضحايا الحروب.. إلخ، اصطدموا بداعش وإصابات السرطان واجتياح الكورونا للقديسين والأولياء.. إلخ. من هنا جاءت محاولة أخرى للتعايش مع الله هى التعايش مع إله القضاء والقدر، يُعبر داود عن هذه الفكرة بقوله: «رأت عيناك أعضائى وفى سفرك كلها كُتبت يوم تصوَّرت.. ما أكرم أفكارك يا الله عندى ما أكثر جملتها... استيقظت وأنا بعد معك» هنا الله الذى يرصد فى كتابه كل تصرفات الإنسان بل كل حياته، وكل فرد له دور واضح محدد فى خطة الله لا يحيد عنها، لذلك فالفشل والمرض والألم كُلها من عند الله الذى صنع كل شىء بدقة متناهية وهكذا كسر الإنسان المستسلم للقضاء والقدر رعبه من الله، لكن هذا التعايش اصطدم بالإبداع الإنسانى وحرية الإنسان فى أن يبدع ويفكر، فالإنسان ليس مجرد آلة، «إذا الشعب يومًا أراد الحياة... فلابد أن يستجيب القدر»، لذلك هناك شعوب بدأت معًا مثل مصر والسودان وإثيوبيا والعراق ولبنان... إلخ من ناحية والدول الأوروبية من الناحية الأخرى مع دول آسيوية مثل الهند وهونج كونج وتايلاند واليابان... إلخ لكن المصير اختلف، باختلاف الإنسان.
من هنا كانت المحاولة الثالثة للتعايش مع الله وهى أن يحارب الإنسان حروب الله يقول داود: «ليتك تَقتُل الأشرار يا الله... ألا أبغض مُبغضيك وأمُقت مقاوميك، بغضًا تامًا أبغضتهم، صاروا لى أعداء».
***
هنا يختار الإنسان فى النهاية أن يحارب حروب الله، وهذا الاختيار عكس الطريقتين السابقتين، فهو لا يعيش الجانب الإيجابى كما الحالة الأولى، ولا القدرى كالمحاولة الثانية، لكنه هنا يحارب أعداء الله ويبددهم، هنا يضع الإنسان نفسه مكان الله، يكره كارهى الله، ولقد ظهر هذا بوضوح فى الحروب الصليبية فى الغرب وفى داعش فى الشرق.
فى النهاية يسقط الأمر فى يد داود النبى لأن كل طريق اختاره به سلبيات من ناحية، وإيجابيات من الناحية الأخرى، فالله هو كل ما ذَكر وهو فوق كل فكر، لذلك يختم داود النبى قصيدته أروع ختام بصلاته «اختبرنى يا الله واعرف قلبى امتحنى واعرف أفكارى، وانظر إن كان فى طريقٍ باطل (من الذى سرت فيه أو فكرت به) واهدنى طريقًا أبديًا» وهنا نرى العلاقة الإيجابية بين العبد وربه، التوتر الخلاق الذى يجعل الإنسان مفتوح العينين دومًا، فكل نظرية اكتشفها الإنسان فى علاقته بالله وأخيه الإنسان بها إيجابيات رائعة، وأيضًا بعض السلبيات، لذلك فالعلاقة مع الله تجعل الإنسان مبهورًا بما يقوله الله فى كتبه المقدسة، وهو يستطيع أن يجد الله فى مكان لا يتوقعه، فينبهر ويسَبّح ويرى الله وهو يحرك الأحداث بإبداع لا يتوقف فيعظم الله.
وهكذا على الإنسان ألا يستسلم ببعض العبارات المحفوظة هنا وهناك، بل يحاول أن يجد ويكتشف فكر الله، ويده العاملة بقوة وهى تحرك التاريخ، وهنا عندما يقول داود النبى «اختبرنى واعرف قلبى (مركز التفكير) فى الثقافة العبرية القديمة» يريد أن يقول ساعدنى لأتخلص من تعريفاتى المعلبة والمحددة لك، اجعلنى أنطلق بفكرى المحدود إلى اللامحدود واللانهائى على قدر استطاعتى ومحدوديتى كإنسان وبين تفوقى عن غيرى فى إطار معرفتك اللانهائية.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات