عشية الأول من نوفمبر 2021، التهمت النيران مسرح ستوديو ناصيبيان، أو مسرح جمعية النهضة العلمية والثقافية «جزويت القاهرة». يومها شعرتُ، وغالبية محبى الفنون عمومًا، بصدمة كبيرة وحزن عميق، فقد كان المسرح رئة مهمة للمشهد الثقافى المصرى، ودفع ذلك العديد من المهتمين والمثقفين إلى تبنى حملة لإعادة المسرح إلى ما كان عليه، قبل أن تنجح الجهود فى ترميمه وإعادة افتتاحه فى مايو 2024.
ولأن للأماكن أرواحًا، تنام وتصحو، قد تجور الطبيعة على جدرانها حينًا، أو تلتهمها النيران حينًا آخر، لكنها لا تموت، كما كتبت ذات يوم، فقد خرج مسرح جزويت القاهرة كالعنقاء من بين الرماد، ليستعيد دوره التنويرى، ويعود ساحة للإبداع ومساحة حرة لتنفس المبدعين.
وبحثًا عن روح المكان، قادتنى قدماى قبل أيام، عبر دروب منطقة الفجالة بوسط القاهرة، إلى قاعة مسرح ناصيبيان، بدعوة من الصديق العزيز هشام أصلان، مسئول الإعلام ومدير البرامج الثقافية فى الجزويت، لمشاهدة العرض المسرحى «رقصة القرن»، الذى يشارك فيه مجموعة كبيرة من الشباب نقلوا، بأدائهم الحركى، شحنة من الطاقة الإيجابية إلى جمهور الصالة المكتظة، وفى مقدمتهم اثنان من كبار المبدعين: المخرج المسرحى والفنان القدير أحمد كمال، والنجم صاحب الأدوار المتميزة صبرى فواز.
وعلى مدى ما يقرب من ساعة، استمتعت بـ«رقصة القرن»، وهو عرضٌ قال القائمون عليه إنه نتاج ورشة للرقص المعاصر والارتجال الحركى، نفذها فريق من الشابات والشبان على مدى عدة أشهر، قبل أن يحشدوا مواهبهم على خشبة المسرح، لرسم ملامح عدد من التحديات التى تواجه جيلهم مع الحياة اليومية.
تتزاحم الشخصيات حينًا، وينفرط عقدها أحيانًا، تنحشر الأجساد فى مساحات ضيقة داخل وسائل نقل خانقة، تتلامس الهموم المعيشية، وتتهامس النفوس بأحلام مستقبلية مشروعة، لكنها بعيدة المنال فى ظل صراع سياسى واقتصادى واجتماعى خانق، وواقع محلى صعب، وإقليمى مضطرب ودولى مهتز...هنا، تسعى الأجساد، لاهثة الأنفاس، لإيجاد موضع قدم لإثبات الذات، والنفاذ من خرم الإبرة الضيق، فى معركة غير متكافئة.
يصرخ البعض من شدة ألم تداعيات الرحلة، ويلهو البعض الآخر بأدوات العصر التكنولوجية وينغمس فى «السوشيال ميديا»، هربًا من حصار يتطلب بذل الجهد والعرق لكسر حلقاته وتمزيق خيوطه، أو لنقل: لتحطيم القيود التى تكبّل نفوسنا بما يفوق طاقتها. كل ذلك يُقدَّم فى إيقاع حركى متقن، وإيماءات وأداء أجساد مرنة، تعكس قدرًا كبيرًا من التمرين المسبق.
فى «رقصة القرن»، أنت أمام كتيبة مبدعة، وشريحة من شباب مصرى لا يولى ظهره للتحديات الجمة التى تحيط به من كل جانب. شباب يقول بوضوح: «نحن هنا، ولن نقبل سوى امتلاك ناصية مستقبلنا. لا نعرف اليأس أو الإحباط، ستتلاحم أجسادنا لتحقيق أهدافنا، ولن نستسلم للعقبات والمعوقات. لسنا كما تظنون: لاهين أو مغيبين، وإن حاول البعض تشويه صورتنا بتصدر المشهد أنصاف المواهب وفرق الانتهازية الجاهزة لحجب كل طاقة نور».
سنظل نراقص الحياة ونتشابك معها كراقصى التانجو: شركاء فى الأحلام، ورفقاء فى تحقيق الأهداف. نعم، نحن جيل صعب المراس، متمرد، يشكك البعض فى قدراتنا على مقارعة التحديات، لكن نفوسنا أصلب من الصخر، وأقوى من كل الصعاب.
هذا ما خرجت به وأنا أغادر مسرح جزويت القاهرة، بعد ليلة من المتعة الفكرية الخالصة، وإن اتخذت شكل موجات من الرقص التعبيرى.
لا يتسع المجال لتقديم التحية لكل من شارك فى هذا العمل الملهم، الذى يدفعنا لتأمل أحوالنا وتلمس طريقنا فى دروب الحياة الوعرة، لكننى أختزل الشكر فى المخرج ومصمم الاستعراضات أحمد عادل، باعتباره تجسيدًا لفريق عمل متناغم يشد بعضه بعضًا على خشبة المسرح، ويستحق كل التشجيع.
وفى الختام، تحية لكل القائمين على جزويت القاهرة، وفى مقدمتهم سامح سامى، المدير التنفيذى لجمعية النهضة العلمية والثقافية، وماريان نخلة، مسئولة الورش الحرة، لجهودهما فى تحفيزى على حضور هذا العرض الذى يستحق المشاهدة.