ودموع الجُرذان دم - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 5:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ودموع الجُرذان دم

نشر فى : الخميس 25 أغسطس 2011 - 8:53 ص | آخر تحديث : الخميس 25 أغسطس 2011 - 8:53 ص

 منذ ثلاثمائة وسبعة عشر عاما بدأ الكشف عن سر الدموع الحمراء، ففى عام 1694 كان عالم التشريح السويسرى «جوهان جاكوب هاردير» يدقق فى فحص محاجر عيون بعض الأيائل التى يجرى عليها أبحاثه، وعثر على غدة خلف العين فى مؤخر المحجر تفرز سائلا دهنيا يتحول إلى قشور حمراء داكنة عندما يجف، فنشر ورقة بحثية عنوانها «غدة دمعية جديدة فى عيون الأيائل السمراء والحمراء»، ومن ثم حملت الغدة فى المراجع الطبية إلى يومنا اسمه: «غدة هاردير»، لأنه كان أول من اكتشف وجودها، وصنفها كغدة دمعية، ومن بعده توالى اكتشاف دقائق أسرار هذه الغدة فى عيون الطيور والزواحف والقوارض وكثير من الثدييات، وهى متميزة وذات دور بارز فى عيون ذات الحوافر والقوارض، خاصة الجرذان، بينما اندثرت فى عيون البشر.

لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!

إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فيتلطخ فراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!

هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها : الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، خاصة آلام المفاصل! وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!

لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذبة مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونها ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.

لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!

شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرؤون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟

من الجرذ؟ والجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتغتذى وتشبع بل لتبْرُد أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟

ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وها هى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟

فمن الجُرذ اليوم ؟

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .