الموجة الثانية
شارع مجلس الوزراء من ١٦ إلى ٢٢ ديسمبر ٢٠١١
نشعر أن السيناريو الذى عشناه فى مارس نعيشه مرة جديدة فى ديسمبر، مرة أخرى يتحول الأمر إلى مجهودات فردية لإخراج الناس الأكثر عرضة للأذى من اعتصام الميدان إلى اعتصام مجلس الوزراء. كنت متأكدة أن حسن، ومحمود صديقه، لن يسلما؛ بعد يومين سيكونان إما استشهدا أو انضما للاثنى عشر شابا المحبوسين فى محاكمات عسكرية. أقنعتهما بالمجئ إلى شارع مجلس الأمة، ودخلنا اعتصام رئاسة مجلس الوزراء وتعهدت بأنهما ليسا بلطجية مبعوثين لاختراق الاعتصام. وجدنا لهما خيمة صغيرة، وبطاطين، ونزل سماهما على قائمة توزيع الإعاشة البسيطة حين تتاح. وفى أماكن متفرقة من الميدان كان الكثيرون منا يقومون بنفس العمل.
كانت أحوال اعتصام مجلس الوزراء أفضل كثيرا من أحوال الميدان؛ كان محدودا فى مساحته كما فى هدفه: أن يعوق تمكن وزارة المجلس العسكرى الجديدة. الاعتصام له بوابة على شارع القصر العينى، وبوابة خلفية قبل تقاطع شارع الفلكى، وبين البوابتين، فى صف منتظم وسط الطريق، رص الثوار طابورا من التوابيت، صنعوها من الكرتون، ووضعوا على كل تابوت اسم شهيد من شهداء محمد محمود وصورته. أقيمت النقاشات والمناظرات، وكتبت البيانات والمانيفستوهات، ودائما كانت هناك موسيقى. فرقة إسكندريللا أتت إلى الاعتصام. فى ليلة قالوا ــ ونحن نتحلق حولهم ــ إنهم سيجربون لأول مرة أغنية جديدة كتبها أمين حداد ولحنها للتو حازم شاهين. ظللنا نطلب منهم الإعادة والإعادة فحفظنا أجزاء منها وارتفعت أصواتنا معهم: «شهدا يغنوا شهدا يطيروا شهدا اعتصموا شهدا شهود / شهدا بييجوا من ماسبيرو ويزوروا محمد محمود..» وفى داخل حوش البرلمان اقترب رجال القوات المسلحة من السور الحديدى فعَدَل المغنون من توجههم ليسهلوا عليهم السماع، ولما غادرت إسكندريللا حاول الثوار وشباب الضباط أن يتحادثوا ولكن، من ناحية، كانت مرارة مقتل رفاقهم هى الشعور الغالب عند الثوار، ومن ناحية أخرى، أصر العسكريون على أن أى حراك سياسى غير التوجه للانتخابات هو تدمير للبلاد وأن الشباب سُذَج، يضللهم «طرف ثالث»، وفى الحقيقة كان اهتمام كل طرف ينحصر فى أن يقول ما عنده لا أن يعرف ما عند الطرف الثانى. ثم أرسل أحد القيادات واسترجع رجاله من عند السور.
كانت منال موجودة ليلتها، ليلة غَنَت اسكندريللا لاعتصام مجلس الوزراء؛ كانت تؤجل، يوما بعد يوم ــ أملا بخروج علاء من السجن ــ القيصرية التى ستطلق خالد فى الدنيا، لكنها، فى ٦ ديسمبر، دخلت المستشفى، وأتت لنا بخالد، فتجدد أحد تقاليدنا العائلية: ارتباط مولد طفل بسجن أحد أفراد الأسرة. بعد أن وضعتنى أمى بأيام قلائل، حملتنى إلى القلعة ورفعتنى أمام نوافذ السجن هناك ليرى خالى ــ المسجون مُدانا بالانتماء إلى جماعة يسارية ــ أول مولود للجيل الجديد العائلة. قامت منال مبكرة من فراش الوضع وأخذت ابنها تضعه فى حضن أبيه. ومثلما ذهبتُ أنا مع أختى فى ١٩٨٦ نأخذ منى لأحمد سيف فى سجن طرة، ذهبت منى مع منال تأخذان خالدا لعلاء فى سجن طرة. لم يكن علاء يتوقعهم؛ كان قد وطن نفسه على أن منال لن تغامر بالزيارة قبل مرور أسبوع على الأقل على الولادة. منى تسجل أن علاء، لما رأى زوجته تهل عليه من بعيد وعلى ذراعها «بقجة» صغيرة ملفوفة صار يقفز ويقفز.. رأيته يقفز هكذا فى غضبه وألمه لموت مينا، والحمد لله أن عندى الآن هذه الصورة الجديدة: علاء يقفز ويقفز فرحا بقدوم خالد.
وفى التاسع من ديسمبر كتب علاء:
فى يومه الثالث زارنى خالد. كانت مفاجأة. توقعت ألا يسمح الطبيب بزيارة إلا بعد أسبوع على الأقل. زارنى خالد لمدة نصف ساعة. حملته فى إيديا عشر دقائق.
يا الله! إزاى جميل كده؟ حب من أول لمسة! فى نصف ساعة أعطانى فرحة تملأ السجن أسبوعا كاملا. فى نصف ساعة أعطيته محبة تمنيت أن تحيطه أسبوعا كاملا. فى نصف ساعة تغيرت وتغير الكون من حولى. أفهم الآن لماذا يستمر حبسى: أرادوا أن يحرمونى من الفرحة. أفهم الآن لماذا سأصمد: حبسى لن يمنع محبتى، سعادتى مقاومة، أن أحمل خالدا لدقائق نضال.
لم أقاوم وحدى لحظة؛ يشاركنى دائما متضامنون. لذا لم أسعد وحدى بخالد، غمرتنى سعادة المتضامنين. اعتدت تلقى تويتات فى صورة برقيات فى محبسى: تهانى بعيد الأضحى وبعيد ميلادى، وصلتنى أيضا تهانى بعودة الثوار للميدان، لكن خالد حاجة ثانية! كم رهيب من البرقيات، أغلبها من ناس لا أعرفهم وربما لن أتشرف بلقائهم أبدا، كتبوا ليعبروا عن فرحهم بقدوم خالد وحبهم له. كتبوا يعرفون أنفسهم، أسماء أفراد عائلاتهم، عناوينهم، وظائفهم، مدنهم، كتبوا أن لخالد عمو وطنط فى مئات البيوت فى كل مكان فى مصر.
•••
نصف ساعة لم أفعل فيها سوى النظر إليه، ما بالكم بنصف ساعة أغَيَر له فيها، أو نصف ساعة أطعمه فيها، أو نصف ساعة ألاعبه فيها؟ ماذا عن نصف ساعة يحكى لى فيها عن مدرسته؟ نصف ساعة نتناقش فيها عن أحلامه؟ نصف ساعة نختلف فيها على نزوله المظاهرة؟ نصف ساعة يخطب فيها بحماسة عن الثورة وكيف ستحررنا كلنا؟ عن العيش والحرية والكرامة والعدالة؟ نصف ساعة أفتخر فيها أن ابنى راجل شجاع شايل مسئولية بلد قبل ما يصل لسن يشيل فيه مسئولية نفسه؟
ما مقدار السعادة فى نصف ساعة كهذه؟ كآخر نصف ساعة قضاها أبو الشهيد مع ابنه؟
يحرمنى السجن من خالد إلا نصف ساعة. أصبر لأننا سنقضى باقى ما كتب لنا من أنصاف ساعات معا. كيف يصبر أبو الشهيد؟
الشهيد خالد، فى قلوبنا خالد، فى عقولنا خالد، فى التاريخ خالد، وفى الجنة خالد. لكن هل يجلب خلوده السعادة لأبيه؟ قلبه سينفجر بمحبة ما بقى من العمر من أنصاف ساعات. هل يفرغ ما فى قلبه بحضن التاريخ؟ أنا أنتظر الإفراج وأصمد. ماذا ينتظر أبو الشهيد؟ أن يلحق بالخالد فى الجنة؟