توم وجيري - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توم وجيري

نشر فى : الخميس 28 ديسمبر 2017 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 28 ديسمبر 2017 - 9:40 م

كان أمام روبرت هيرمان عام واحد فقط ليتم قرنا كاملا من الإبداع ونشر البهجة لكنه رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة. وروبرت هيرمان الشهير ببوب جيفنز هو مصمم ثنائي الكارتون الشهير توم وجيري، هذا الكارتون الذي تربت أجيال كثيرة علي مغامراته، لكن تظل الأجيال الأكثر تأثرا به هي أجيال ما قبل التطور الكبير في فن الرسوم المتحركة ودخول الكمبيوتر بقوة على الخط . صعب جدا أن يتسلل مبدع إلى قلوب الأطفال فلتلك القلوب مفاتيحها الخاصة التي لا تتاح لكل أحد، كثير من المبدعين جربوا أن يدخلوا للصغار من باب تقمص أسلوبهم في الحديث فرققوا أصواتهم وقلدوا لثغتهم ومع ذلك فشلوا فالأمر أعقد من هذا بكثير، وهو مرتبط علي الأرجح بالتكوين النفسي للمبدع وقدرته على تبديد خوف الأطفال وبناء جسور المحبة إلى قلوبهم. ومن هنا يأتي تميز جيفنز الذي انتقم للصغار من كل الكبار الذين يتسلطون عليهم وينزلون بهم العقاب، انتقم لهم من خلال هذا الفأر الصغير جيري الذي يدبر المقالب الساخنة للقط توم ويوظف ذكاءه للخروج منتصرا من كل معركة. تفاصيل مغامرات توم وجيري ليست من صنع جيفنز لكنه هو صانع معادلة القوة بين شخصيتّي القط والفأر تماما كما صنع معادلة للقوة بين شخصية الأرنب الضاحك باجز باني وبين شخصيات خصومه ومنهم شخصية الثعلب والصياد وغيرهما. الحنكة الفائقة التي صنع بها جيفنز كلا من جيري وباجز باني جعلت الأول أشهر فأر في العالم وجعلت الثاني الأرنب الأثير لدى ملايين البشر إلى حد دفع بالولايات المتحدة لإصدار طابع بريدي يحمل صورته.
***
لم يكن جيفنز قادرًا فقط على ملامسة قلوب الأطفال بشخصياته الكارتونية المحببة لكن نفاذيته امتدت إلينا نحن الكبار فإذا بِنَا نتحول عند مشاهدة جيري وهو ينكل بتوم إلى مشجعين ومهللين ، نضحك من قلوبنا وجيري الخبيث يَصْب على خصمه الطلاء الأسود أو يوقعه في البئر أو يشعل في ذيله النار، ونحبس أنفاسنا عندما تمتد مخالب توم لتحكم الخناق على عنق الفأر الصغير ولا نهدأ إلا وقد أفلته. لماذا نتعاطف مع شرور جيري ولا نغفر لتوم شره؟ هذا التعاطف هو جزء من مشاعرنا الفطرية تجاه الأضعف تماما كما نتعاطف مع شخصية لبلب في الفيلم الشهير عنتر ولبلب، وربما يمكن تفسير هذا التعاطف أيضا بأنه نوع من جلد الذات لأننا عندما نسخر من توم الذي يمثلنا نحن الكبار فإننا نسخر بالتبعية من تذاكينا وتجبرنا واغترارنا بقوتنا. عموما فإن شرور جيري كانت من أبرز المآخذ التي أخذها عليه النقاد باعتبارها تعرض الصغار لمشاهد عنف ضد القط توم هم في غنى عنها، أما بالنسبة لي شخصيا فأجد أن هذا النقد مبالغ فيه لأنه يكفي أن يرى الطفل أن القط توم الذي تم تقطيعه إربا بواسطة ماكينة تقطيع الجبن في إحدى حلقات المسلسل قد عاد ممتلئا بالحيوية والقوة في حلقة أخرى ليدرك أن الأمر محض خيال، ودور الأهل في هذا الخصوص له أهميته .
***
أما النقد الذي لم تستطع مغامرات توم وجيري أن تتجنبه فكان اتهامها بالعنصرية المزدوجة ضد النساء وضد الملونين، وذلك أن المرأة الوحيدة التي كانت تظهر في الحلقات لتطارد القط توم وتعنفه على ما يحدثه من فوضى في بيتها كانت سيدة مقطوعة الرأس سوداء البشرة وبدينة حملت اسم مامي تو شوز .
هذا الاستريو تايب الذي تم تمريره بسهولة في الأربعينيات والخمسينيات وحتى بعد ذلك لم يعد من الممكن التسامح معه وقد سادت الفن موجة من التصحيح السياسي للمواقف السلبية تجاه المختلفين في اللون والجنس والدين وذلك كاتجاه عام، فما عاد يمكن الإضحاك بصفع المرأة على وجهها أو السخرية من شكل الأقزام أو تصوير الملونين كخدم. وفي هذا الإطار ساد النظر إلى مغامرات توم وجيري باعتبارها تجسد العنصرية في
الثقافة السياسية الأمريكية، ومن أحدث الأفلام التي تبنت هذه النظرة فيلم " I am not your negro"
الذي عُرِض عام ٢٠١٧ والذي يجسد نضال مجموعة من الأمريكيين ضد عنصرية مجتمعهم ويستشهد الفيلم على هذه العنصرية بأمثلة عديدة منها توم وجيري. هذا علما بأنه حين عرض هذا الفيلم كان منتجو مسلسل توم وجيري قد تخلوا عن الخادمة الملونة البدينة وجاءوا بدلا منها بامرأة بيضاء ممشوقة.
***
رحل صانع البهجة بوب جيفنز بعدما قضى ستين عاما من عمره في صنع شخصيات كارتونية أثارت الجدل من حولها وشكلت جزءا من طفولة لا بل وشباب وحتى كهولة الكثيرين من بيننا، شخصيات نحتها بريشته وظلت تقاوم حتى لا تزيحها من الساحة عشرات الشخصيات التي تفنن صناعها في جذب عقول الصغار وقلوبهم . صحيح أن توم وجيري وباجز باني لم يعودوا هم الاختيار الأول للجيل الجديد الذي ربما يفضّل شخصيات مثل ترول بشعره المنكوش وحدقتيه الواسعتين أو مثل شيمر وشاين الأميرتين الجميلتين ذواتا الشعر المنسدل أو آنا والسا الأختين اللتين ترمزان لصراع الخير مع الشر أو مثل السمراء موانا وهي واحدة من أحدث شخصيات ديزني، لكن تظل شخصيات جيفنز حاضرة لا تغيب تنتزع ابتسامتك انتزاعا عندما تهتز أكتاف جيري بعد كل نصر يحققه أو تعلو ضحكة باجز باني فتزداد أسنانه الأمامية اللطيفة بروزا وترى فيها الجمال كله.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات