المسألة السكانية والسياسات الاقتصادية - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المسألة السكانية والسياسات الاقتصادية

نشر فى : الأحد 30 مارس 2014 - 6:35 ص | آخر تحديث : الأحد 30 مارس 2014 - 6:41 ص

قبل الخوض فى استعراض موجز للحالة السكانية فى مصر وعلاقتها بالسياسات الاقتصادية، يجدر التشديد على أن الوزن السكانى لأى بلد يمثل قوة لها. على مر التاريخ، كل البلدان ذات التأثير فى زمانها هى بلدان لها حجم معتبر من السكان، ولكن السكان خامة أو مادة أولية، تحتاج إلى الاستثمار فيها لكى تدرَ دخلا وتصير ثروة، وتتحول من مصدر لقوة محتملة إلى قوة فعلية حقيقية للبلد المعنى، بمعيار الزمان الذى يعيش فيه.

•••

فى مصر عدد ملحوظ من علماء السكان المشهود لهم بالكفاءة والذين تخصصوا فى علم السكان، أو الديموغرافيا، منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى. هؤلاء العلماء، ومعهم المتخصصون فى العلوم الاجتماعية القريبة يعجبون ويحتارون فى تفسير تطور المسألة السكانية فى مصر. لا يحتاج الأمر إلى عالم فى علم السكان لإدراك أنه فى كل البلدان، إن بدأ معدل نمو السكان فى الانخفاض فهو يستمر فى الانخفاض، وتجتهد الدول فى وقف هذا الانخفاض عندما يصل أو يهدد بالوصول إلى مرحلة الخطر، مرحلة شيخوخة السكان، وانكماش السكان فى سن العمل، بل والسكان عموما، وهو ما حدث فى اليابان اعتبارا من سنة 2003. فضلا على معدل الوفيات، فإن معدل نمو السكان يحدده معدل الخصوبة، أى عدد مرات الإنجاب للمرأة فى سن الإنجاب، أى تلك التى تكون بين الخامسة عشرة والتاسعة والأربعين من العمر، وبطبيعة الحال، ينعكس معدل الخصوبة على معدل المواليد. بدوره، إن بدأ معدل الخصوبة فى الانخفاض، فهو لا يتوقف عن الانخفاض، وتضع الدول السياسات الاجتماعية لوقف هذا الانخفاض بل وعكس اتجاهه، وهو ما نجحت فيه إلى حد بعيد بلدان شمال أوروبا، بانتهاج سياسات تمكِن المرأة من التوفيق بين خوضها لسوق العمل، من جانب، والاضطلاع بمسئولياتها العائلية، من جانب آخر. هذه السياسات تشمل التأمين الصحى، ودور حضانة الأطفال، والمعاونة المنزلية، وإجازات للأزواج للمساعدة فى تحمل أعباء الأسرة، وغيرها. الأمثلة على انخفاض الخصوبة وانخفاض نمو السكان، أو نموهم بالسالب، واللذين لم يمكن إيقافهما عديدة من بلدان جنوب أوروبا مثل إيطاليا، وإسبانيا، واليونان، ومن وسطها، مثل بولندا ورومانيا، بل ومن بلداننا العربية مثل تونس، ولبنان، والمغرب.

•••

فى مصر، سلك كل من منحنى نمو السكان والخصوبة والمواليد منحى غريبا. بعد أن بدأ كل من هذه المنحنيات فى الانخفاض، انعكس اتجاهه وأخذ فى الصعود مرة أخرى، أو على أحسن تقدير توقف انخفاضه! فى بدايات القرن الحادى والعشرين كان معدل نمو السكان قد انخفض إلى 1،9 فى المائة، ولكنه بدلا من أن يستمر فى الانخفاض، كما كان مطلوبا، حتى لا يختل التوازن بين السكان والموارد أكثر مما هو مختل بالفعل، عكس اتجاهه وأخذ فى الصعود مرة أخرى حتى وصل إلى معدل 2،55 فى المائة فى عام 2012. معدل المواليد لكل ألف نسمة انخفض بشكل مستمر منذ سنة 1950، وتسارعت وتيرة انخفاضه اعتبارا من سنة 1960، وكان الانخفاض ملحوظا بشكل خاص فيما بين 1985ــ 1990 و1990ــ 1995، ولكن الانخفاض تباطأ فى السنوات العشر التالية، ثم عاد معدَل المواليد إلى الارتفاع بين 2000ــ2005 و2005ــ2010 وما بعدها! فى سنة 2005 كان معدل المواليد 25 لكل ألف نسمة فصار 32 لكل ألف نسمة فى 2012. كيف حدث ذلك وما هو تفسيره الممكن؟ يمكن صياغة فرضيات تحتاج إلى بحوث وبيانات مفصلة لاختبار سلامتها.

ألا يلحظ المتفحص فى الأرقام أن النصف الأول من تسعينيات القرن الماضى محورى؟ قبلها انخفاض سريع الإيقاع فى معدل المواليد وبعدها تباطؤ ثم ارتفاع؟ سجل معدل الانخفاض فى الخصوبة نسبة 17 فى المائة فى الثمانينيات، ثم أخذ معدل الانخفاض فى الانحسار، ويعتقد مجمل علماء السكان فى مصر حاليا أنه استقر عند ثلاثة أطفال للمرآة الواحدة اعتبارا من منتصف العقد الماضى. ألم تكن سنوات النصف الأول من التسعينيات هى فترة التحول الأساسية فى السياسات الاقتصادية المتبعة؟ ألم تكن هى الفترة التى بدأ فيها تقليص دور الدولة فى النشاط الاقتصادى وتخفيض الإنفاق العام وما يستتبعه ذلك من تراجع سياساتها الاجتماعية؟ ألم يبرم اتفاق برنامج الإصلاح الاقتصادى والتعديل الهيكلى فى سنة 1991؟ الأمر ليس فقط أمر بداية فى التراخى فى صياغة سياسة تنظيم الأسرة وتطبيقها. إن الأمر يتعلق بتلاشى إجراءات الخدمة الاجتماعية، والرعاية الصحية، وبهوان العملية التعليمية التى تقدمها الدولة للمواطنين، بفعل انخفاض الإنفاق العام على السياسات الاجتماعية، محسوبا بمتوسط الإنفاق على المواطن الواحد وليس بمجموع الإنفاق. تقصير الدولة تقدمت للتعويض عنه جماعات الرجعية الاجتماعية والثقافية التى فتحت المستوصفات، ونظمت فصولا تعليمية، بل ووفرت لطلاب الجامعات الملابس والكتب، ووصلت حتى إلى تزويج الشباب. اكتسبت هذه الجماعات أرضا ونالت امتنان من خدمتهم وثقتهم، فسنحت لها فرصة أن تبث بين المواطنين أفكارها عن المسألة السكانية، وهى أفكار اتكالية شاذة تكتفى بزعم أن القوة فى العدد ولا تلتفت إلى خصائص السكان التعليمية، والصحية، والثقافية، بمعنى أنها لا تلقى بالا لضرورة تزويد السكان بالمواصفات التى تحولهم من قوة ممكنة إلى قوة فعلية حقيقية. قد يقول قائل إن هذه الجماعات تقدم الخدمات للمواطنين، والرد على ذلك هو أنه يمكن تقديم هذه الخدمات لنسبة صغيرة من السكان أما توفيرها لمجموع المواطنين فهو يحتاج إلى سياسات وموارد كافية تمول تطبيقها. هذه السياسات لا تقوى عليها إلا الدولة، وهى جهاز المفترض فيه أنه تحديثى. تقلَم أجنحة الدولة بدعوى تمكين السوق من أن تؤدى وظائفها بحرية وكفاءة ولترفع مستوى الاقتصاد وتحدثه، ولكن السوق ليست كلها تحديثية، بل إن جانبا منها وتنظيمات المجتمع المرتبطة به ذات توجهات اقتصادية واجتماعية وثقافية رجعية. هذا حدث فى مصر فى العقود الأخيرة وتفاعل مع الاتجاهات المحافظة والمتزايدة فى محافظتها التى رعتها الدولة بشكل يكاد يكون صريحا منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضى.

•••

تطور المسألة السكانية مثال على الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية. هذه الآثار تضخمت مثل كرة الثلج فى تدحرجها. بالإضافة إلى ما سبق، فبفعل الزيادة السكانية زاد الطلب على التعليم فما كان من الدولة مقلمة الأجنحة إلا أن عرضته سلعة رديئة سواء على شكل تعليم عام وضيع المستوى أو على هيئة تعليم مدرسى دينى رخيص التكلفة لا ينور أذهانا ولا يدر دخلا يقى من الحاجة ومن الأفكار الظلامية.

والسياسات الاقتصادية هى المسئولة عن فشل التنمية بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو فشل ينتج آثارا على السكان. التنمية فاشلة بشكل خاص فى الصعيد حيث توجد أكثر ثلاث محافظات فقرا فى مصر وهى أسيوط، وسوهاج، وقنا. الصعيد الذى يعيش فيه 25 فى المائة من سكان مصر ينتج 42 فى المائة من المواليد سنويا! هل من بينة أكثر بلاغة على العلاقة العكسية بين الزيادة السكانية، والتنمية، والسياسات الاقتصادية؟ وليس صعبا تصور أن فى المحافظات المذكورة الثلاث، وفى الصعيد عموما، يرتفع معدل الأمية، خاصة أمية الفتيات والنساء، عنها فى بقية أنحاء البلاد. والعلاقة بين تعليم النساء وانخفاض الخصوبة ثابتة لا ريب فيها.

•••

المسألة السكانية مرآة للسياسات المطبقة وللأفكار التى تنشأ عنها بقصد أو بدون قصد. المسألة السكانية فى مصر وجه آخر للأفكار الرجعية وللتطرف الذى ساد مصر بدون رد فى العقود الأخيرة. للتطرف جذور فى السياسات الاقتصادية، مرة أخرى.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات