ثورة وقامت - أميمة كمال - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثورة وقامت

نشر فى : الأحد 2 ديسمبر 2012 - 12:30 م | آخر تحديث : الأحد 2 ديسمبر 2012 - 12:30 م

«يا اللى بتسأل إحنا مين.. إحنا صحاب 25» كان هذا الشعار ببساطة هو الإعلان الرسمى، والمغزى الأعمق لنوعية الجماهير المحتشدة يوم الثلاثاء الماضى فى ميدان التحرير. وهذا لا ينفى بالطبع أن الميدان كان يجمع عددا لا بأس به من الفلول، وعددا آخر لايستهان به ممن كانوا ينتمون إلى حزب (الكنبة) الشهير. والذين كانوا فى السابق يشاهدون الثورة مسجلة صوت وصورة، وينتظرون المنتصر ليحتفلوا معه. لكن عندما كان يهتف بعض الشباب المحمولين على الأكتاف «ثورة وقامت وحنكملها. أحنا شباب مصر اللى عملها» كانوا بالفعل يعلنون عن هوية الميدان. فالميدان كان بالفعل يحمل رائحة يناير العطرة. ولذلك فالعطر بالفعل فاحت رائحته وشملت الجميع، فسادت رائحة نسائم يناير على كل ماعداها. وبدا الميدان، وكأن العطر يفوح من أجساد الجميع، حتى محدثى الثورة نالهم من العطر جانبا.

 

أصحاب يناير وصناع ثورته لاتخطئهم العين، وهم يعودن إليه كلما ضاقت بهم الصدور، وأيضا الأحوال. يعودون إلى ميدانهم يضحكون، ويرسمون، ويغنون، ويشدون على أكتاف بعض لشد أزر أنفسهم. لإنهم هناك يشعرون بأنهم ليسوا وحدهم، ولكن ورائهم ظهور تحميهم. ولمن لايعرف الثورة بحق أقول، للثورة أمارات، وعلامات يعرفها كل من حجز لنفسه شبرا فيها، يعود إليه كلما دعاه الميدان.

 

الثورة أن تجد رجلا خمسينى العمر بسيط الحال، قويا عفيا، يقفز فى الهواء قفزات متتالية سريعة، وتسمع صوت قدميه، وكأنها تخرق الأرض، ويستمر يهتف وشباب صغار يردون إليه فى حوار ارتجالى يكمل كل طرف فيه ما يراه. يسأل الرجل الشباب نقول إيه لحكامنا؟ فيردون عليه أيه؟ يصرخ «إحنا ولاد طبلية أبونا. خدنا الدرس من اللى جابونا. تشتغلونا وتلعبونا، مش حنطبطب ولا حنهزر. حاسب أوعى إياك تتهور. أحنا الشعب الخط الأحمر». وعندما بدت العيون تلمع، وأصبح الجميع يتبادلون الابتسامات، يزيد الرجل وكأنه يوزع منشورا سياسيا، قائلا: «خالويص». فيرد الجمع «لسه». الثورة خلصت؟ يصرخ الجميع بعلو الصوت «لسه». خلصوا على الجوع؟ يصرخون أعلى «لسه». خلصوا على الفقر؟ فتبدأ الدموع تبل بعض الوجوه «لسه». يعود الرجل ليسأل لسه الشباب عاطلين؟ «لسه». لسه الزحمة على الأفران؟ ويسرع فى الهتاف «لسه الشباب عطلان؟» والكل فى صوت واحد بعد أن وسعت الدائرة كثيرا «لسه». «والبلد مفهاش أمان» فيردون وراءه «لسه».

 

وبمجرد أن ينتهى الرجل من هتافه، يفسح مكانا لشاب جاء مسرعا من بعيد، بعد أن شده حماس الملتفين حول الرجل ويقول وعيناه تدمعان، وكأنه يدير حوارا داخليا مع نفسه «مابقتش باخاف، مش حاأسكت، حأصرخ حأفضل حر. سجانك يتعلم منا. يتعلم يبقى له كيان. يتعلم يخدم أوطان». ويسكت الشاب ويبدأ الجميع فى ترديد نفس الهتاف، وكأنهم يحفظونه. ويزداد الشاب حماسا ويعلو صوته «بص ياعامل أفهم دورك. مهما حتنتج مهما حتصنع. تعبك رايح للحرامية». «بص يا طالب مهما تذاكر مهما حتنجح. لاتعليم من غير حرية».

 

ووسط الدائرة المشتعلة حماسا التى تنفر عروق معظم الوجوه فيها يمر رجل على دراجة بخارية يحمل على مقدمتها صورة لجمال عبدالناصر فيقسم الجمع. وبدلا من أن يتشاجر أحد معه يتقدم أحدهم، ويقبل رأس الرجل صاحب الدراجة. ويتبادلان علامات النصر. دون أن ينطق أحدهما بكلمة. وتنفض الدائرة.

 

 

للثورة علامات يعرفها من داس أرضها، وأحب ترابها، وتذوق فيها حتى رائحة ساندوتشات الكبدة الفاسدة التى لو شم رائحتها فى أى بقعة أخرى من الأرض لأحتاج لشهور حتى يتخلص منها. الثورة أن يضع شاب لافتة على حائط من القماش مكتوبا عليها «والعالم عاقل ومش مجنون. ولايمكن لطلقة ترسم كون» فتجد شابا آخر يأتى ليضع بجانبه لافتة أخرى مكتوب عليها «حاربوا إنفلونزا طائر النهضة». ثم يساعد غيره على وضع لافتة جديدة «سوف يأتى يوم لأخبر فيه أطفالى أنى حاربت من أجل الحرية» ليكون الجميع معا معرضا صغيرا. ويقفون معا يحمونه. ثم سرعان ما يبدأ الجميع فى تبادل السجائر، ثم أكواب الشاى، ثم النكات، ثم الدندنة، وبعدها يبدأون فى اقتسام اللقمة، والغنوة، والباطنية.

 

الثورة أن تجد طبيبا يوزع ورقة عنوانها «لا أكل ولاعلاج ربنا موجود» وما أن تقرأها وتعرف أن من كتبها هم أعضاء «لجنة الحق فى الصحة والتعليم» الذين يقولون لا للدستور الذى وضعه الإخوان. وتعرف أن هذه اللجنة تكافح ضد ممارسات النظام الحاكم الذى تصفه بأنه يواصل مسيرة نظام مبارك. وتدعو إلى زيادة الموازنة المخصصة للصحة والتعليم وتقف ضد خصخصة الصحة. فتجد نفسك على الفور تشارك الأطباء فى توزيع الأوراق بمجرد أن تقرأ أن هؤلاء الأطباء ومعهم المعلمين يرفضون قانون التأمين الصحى الجديد الذى سيرفع التأمين على أطفال المدارس من 4 جنيهات إلى 60 جنيها. وتعرف أن من بين مطالبهم حدا أقصى للأجور يوفر حدا آدميا لأجور من هم فى أسفل السلم الاجتماعى.

 

 

الثورة أن تجد عددا من أعضاء جهاز المحاسبات يقفون بمنتهى الإصرار، يواصلون ما بدأوه فى ثورة يناير، دون أن يفتر حماسهم. فلم يكتفوا بخلع جودت الملط رئيس الجهاز فى عهد مبارك، ولا بنجاحهم فى تحويل هدف محاربة الفساد وحماية المال العام إلى مطلب جماهيرى. لكن أرادوا أيضا أن يقفوا ضد كل ما جاء فى الدستور من مواد تعرقل من رقابتهم على المال العام. فأعضاء ذلك الجهاز الذى كان صمتهم يزيد عن صمت أبوالهول ذاته بدأوا فى الصراخ من المواد الدستورية التى قصرت رقابة الجهاز على المال العام فقط. وسلبت حق الجهاز فى مراجعة أعمال بعض الأجهزة والهيئات ومنها البنك المركزى. كما لم تحتمل ضمائر أعضاء الجهاز أيضا أن يظل الجهاز تابعا لرئيس الجمهورية.

 

الثورة أن تجد أعضاء اتحاد النقابات المستقلة على قلب رجل واحد يقفون فى وسط الميدان رافعين راية العصيان ضد أول تطبيق عملى للإعلان الدستورى، وهو تعديل قانون النقابات العمالية، الذى سبق وأن اصدرت المحكمة الدستورية حكما بإبطال 12 مادة فيه. النقابات المستقلة فضحت ذلك الإعلان الذى وجد فيه الرئيس محمد مرسى الملاذ الأخير الذى يستطيع به أن يحقق هدف الإبقاء على اتحاد العمال التابع لنظام مبارك. ذلك المرسوم بقانون الذى صدر خفية فى نفس يوم صدور الإعلان الدستورى. والذى لم ينشر فى الجريدة الرسمية إلا بعدها بيومين. أعضاء النقابات المستقلة هم أصحاب الفضل فى تعرية الإعلان الدستورى الذى أعطى حقنة منشطة للكيان الذى كان مناهضا للثورة. ووقفوا يقنعون من فى الميدان بأنه لو كان الرئيس صادقا فى قوله بأن الإعلان الدستورى من أجل مصلحة الناس كان يستوجب أن يكون أول قرار له هو إصدار قانون النقابات المستقلة. تلك النقابات التى كانت عنوانا عريضا لثورة يناير.

 

 

حقا للثورة شعب يحميها من نقابات فاسدة تقف ضد مصالح العمال، ومن حكومة تضع سياسات تزيد من إفقار الناس، ومن بطالة الشباب، ومن طوابير العيش، ومن لجنة تأسيسية تضع استثناءات فى الدستور للحد الأقصى للأجور مراعاة لمصالح أهلها وعشيرتها، وتشطب من الدستور حق العمال والفلاحين فى نصف المقاعد. ومن نظام يريد أن يضع فى جيبه أجهزة الرقابة على المال العام حتى لاتخرج عن طاعته. حقا ثورة وقامت.

 

 

 

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات