الموسيقى خير من يمثلنا - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الموسيقى خير من يمثلنا

نشر فى : السبت 6 نوفمبر 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 6 نوفمبر 2021 - 7:55 م

ما زال منظر هذا الموسيقى الفذ محفورا فى ذاكرتى رغم مرور السنوات، فصورته تعكس قمة الحرية والاستمتاع. إنه ديف بروبيك، عازف البيانو الأمريكى ومؤلف موسيقى الجاز الذى ظل يشارك فى حفلات عامة حتى قبل وفاته بقليل، وكان سنه قد تجاوز التسعين، فهو من مواليد سنة 1920 وتوفى عشية عيد ميلاده فى الخامس من ديسمبر عام 2012. حين تلمحه جالسا واهنا على كرسيه، مستندا على جدار المسرح قبل الحفل، لا تتوقع أبدا أن يتحول لهذا الساحر عند بدئه فى العزف. لم تثنه حرارة الجو الاستثنائية يومها عن الإبداع، بل كان يمازح الجمهور بلطف، ويتخلص من ملابسه الرسمية على المسرح وهو يعزف بمرح شاب فى العشرين. تذكرته فجأة وأنا أتابع المادة الفيلمية لمحاضرة أقيمت الأسبوع الماضى حول دبلوماسية الجاز، فى إطار الدورة الثالثة عشر لمهرجان القاهرة للجاز التى انتهت فى الخامس من نوفمبر الجارى. كان هو ضمن مجموعة «سفراء الجاز» التى شكلتها عام 1956 الوكالة الأمريكية للتواصل الدولى (USIA) خلال فترة الحرب الباردة. وقد استمرت هذه الوكالة تحت أسماء مختلفة فى خدمة السياسة الخارجية الأمريكية حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، إلى أن اختفت عام 1999.
ضمت مجموعة «سفراء الجاز» باقة من أمهر العازفين وقتها، معظمهم من أصحاب البشرة الداكنة أو الأفارقة الأمريكيين كما يطلق عليهم، فكان من بينهم لويس أرمسترونج وديوك إلنجتون وديزى جيليبسى الذين ساهموا فى ترسيخ صورة ذهنية للمجتمع الأمريكى ربطت بين الحرية والرأسمالية، فى مقابل صورة أخرى دعمتها الدبلوماسية العامة السوفيتية التى أرادت أن تجعل من بلادها رمزا للسلام من خلال عازفى الموسيقى الكلاسيكية والفولكلورية، خاصة اليهود منهم. فَهَمَ القائمون على الدبلوماسية العامة أو الشعبية فى الولايات المتحدة الأمريكية حينها أن الموسيقى الكلاسيكية هى بالأحرى صوت أوروبا وأنهم قد لا يستطيعون مجاراة روسيا بهذا الصدد، ففضلوا أن يتخذوا من الجاز سفيرا لهم، للتدليل على مفاهيم التحرر والانعتاق، حتى لو كان المجتمع الأمريكى وقتها يعانى داخليا من بعض مظاهر العنصرية ضد السود، فقبل عام واحد من تأسيس «سفراء الجاز» كانت المظاهرات قد اندلعت تأييدا للناشطة روزا باركس التى رفضت طلب سائق الحافلة بالتخلى عن مقعدها لراكب أبيض البشرة بعد امتلاء العربة، وصارت باركس رمزا لحركة الحقوق المدنية. وجدوا إذا الحل فى موسيقى الجاز التى انطلقت إلى العالم من مدينة نيو أورليانز فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، باعتبارها مزيجا من الموسيقى الأفريقية والأوروبية، إذ ضمت المدينة مواطنين من أصول متعددة إسبانية وفرنسية وهايتية إلى ما غير ذلك.
•••
تحدث باراك أوباما بعد توليه الرئاسة عن ذكرياته مع موسيقى الجاز وتحديدا مع ديف بروبيك، أحد سفرائها، وكيف اكتشف من خلاله هذا العالم الحقيقى والحر حين اصطحبه والده وهو فى العاشرة من عمره إلى إحدى حفلات بروبيك (وهو من أصحاب البشرة البيضاء) فى مدينة هونولولو بهاواى عام 1971. تعلق أوباما بهذا النوع من الموسيقى القادر على تحويل أى أغنية شعبية قديمة إلى شيء مختلف تماما، وصار يرى تشابها كبيرا بين طبيعته الارتجالية وتركيبة المجتمع الأمريكى القائمة على التنوع، وهو ما أراد التأكيد عليه من خلال الخطاب الذى ألقاه فى حدائق البيت الأبيض، بمناسبة اليوم العالمى للجاز، الذى استضافه عام 2016 برعاية منظمة اليونسكو. استحضر نموذج ديزى جيليبسى الذى رشح نفسه للرئاسة الأمريكية عام 1964، وصرح عازف البوق الشهير وقتها، أنه إذا نجح فى الانتخابات سيحول البيت الأبيض إلى بيت للبلوز ذلك النوع الذى يتغنى فيه الناس بحزنهم وأساهم. وبالطبع ذكر أيضا لويس أرمسترونج، المغنى والعازف العظيم، الذى انضم إلى مجموعة «سفراء الجاز» دون قصد، فقد قرر من تلقاء نفسه عام 1956 القيام بجولة إفريقية واتجه إلى غانا وهى فى مرحلة التحرر من سيطرة الاحتلال الإنجليزى، كان ذلك برغبة حقيقية منه فى الدعم والمساندة وأيضا فى الرجوع إلى جذوره بالقارة السوداء، ومن بعدها انضم رسميا إلى مبادرة الوكالة الأمريكية للتواصل الدولى (USIA) ومجموعة «سفراء الجاز».
•••
فكرة الجولات الفنية التى تنطلق من هذا البلد أو ذاك، بتحضير مسبق، لتخاطب الشعوب مباشرة وتتحاور مع الجماهير الأجنبية، كانت ولا تزال قائمة وفعالة، لكنها اتخذت خلال الحرب الباردة صورا كفيلة بإنتاج العديد من الأفلام المستلهمة من تفاصيلها، على غرار فيلم «حرب باردة» الذى صدر فى 2019 وهو من إخراج بافل بافليكوفسكى، ويدور حول قصة حب جمعت بين مغنية وعازف بيانو ومحاولاتهما للهروب من الستار الحديدى المفروض عليهم خلال حكم ستالين. كانت هذه الجولات فى أحيان كثيرة فرصة للموسيقيين الراغبين فى الفرار من دول الاتحاد السوفيتى السابق، ومذكرات الكثير من الفنانين الذى نجحوا فى الهرب إلى أوروبا أو أمريكا مليئة بالحكايات المُرة والشيقة التى تشبه الروايات. وإلى الآن العديد من باحثى العلوم الاجتماعية يحاولون فك طلاسم استخدامات الموسيقى المختلفة عبر العصور والقارات، فأصحاب الدراسات الإثنية يهتمون بدورها فى الحروب وإعادة الإعمار، وعلماء الاجتماع يتابعون تأثيرها على الجمهور وكيف يتم استقبالها خارج الحدود، والمشتغلون بالتاريخ يحاولون الوقوف على دورها فى عمليات النقل الثقافى وتأثير الدبلوماسية الثقافية، أما أصحاب العلوم السياسية فيركزون مثلا على المشاعر التى تنقلها الموسيقى وما يمكن أن يُبنى عليها فى مضمار العلاقات الدولية أو كيف يتم توظيفها من قبل داعش وشركائها. الأفكار تتداعى حول هذه القوة الناعمة الكفيلة حرفيا بأن تحمل صوت بلد للعالم، لتوحى أحيانا بأشياء ومعانٍ لا تعكس بالضرورة ما يحدث على جبهتها الداخلية، وهناك من يفعلون ذلك بمهنية عالية.

التعليقات