العنوان الدائم مكانه فى القلب - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العنوان الدائم مكانه فى القلب

نشر فى : الأربعاء 8 مارس 2017 - 11:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 مارس 2017 - 11:20 م
لطالما استوقفتنى عبارة «مكان الإقامة الدائم» فى كثير من الاستمارات التى ملأتها على مر السنوات الماضية، بالإشارة إلى مكان واضح المعالم يطلب منا أن ننظر إليه على أنه مربط خيلنا والعلامة الفارقة فى هويتنا وانتمائنا. وكنت فى كل مرة أكتب عنوان منزل العائلة فى دمشق كمكان إقامتى الدائم، ثم أنتقل إلى الخانة التى بعدها فى الاستمارة وأدخل مقر الإقامة المؤقت، أى حيث أعيش فى الفترة التى يتعين على أن أملأ فيها الاستمارة. ويبدو لى وأنا أسترجع البلاد والبيوت العديدة التى سكنتها أن لا علاقة بينها إلا أننى كنت فى فترة من الفترات موجودة فيها، أنا التى ما زلت أكتب أن مقر إقامتى الدائم هو بيت والدى فى دمشق، على الرغم من أننى تزوجت وأصبح بيتى الفعلى، حيث أعيش مع عائلتى، موجودا فى القاهرة.

***

اليوم، وفى حديث مع صديقة قديمة ترافقنى وأرافقها منذ كان عمرنا ست سنوات، وهى من أصول فلسطينية، وجدتنا نتناقش حول الموضوع الأزلى الذى يتسلل إلى عقلى كل مرة أشتاق فيها إلى خانة «مكان الإقامة الدائم»: إلى أى مكان ننتمى؟ أين هو الوطن؟ ما هو تعريفنا له، لا سيما بعد أن شعرنا، ولو للحظات، أن بإمكاننا أن نطلب وطنا على مقاسنا، فطلبنا وطنا مبنيا على مبادئ محددة لطالما حلمنا بل وما زلنا نحلم بها.

صديقتى الفلسطينية لم تشكك يوما بانتمائها إلى فلسطين، على الرغم من أنها ولدت لأم لبنانية، وعلى الرغم من أنها لم تعش فى فلسطين قط، فقصتها كقصص كثير من الفلسطينيين الذين تشربوا حب الوطن منذ أن فتحوا أعينهم على دنيا سلبت منهم البيت والتاريخ، إلا أنهم لم يتوانوا ولم يتوقفوا عن المطالبة بالعودة، حتى وهم يعيشون وقد يموتون دون أن تتسنى لهم زيارة الوطن.

نتساءل فى حديثنا الممتد بين القاهرة ولوس أنجلس، ومع فارق عشر ساعات فى التوقيت بيننا، عما نعرفه بأنه البيت أو الوطن، بالمعنى المتبع فى الكلمة الإنجليزية «هوم» فالكلمة تعنى حرفيا «البيت» وتعنى مجازا «الوطن».

***

صديقتى حاولت إقناعى أنها قررت أخيرا أن تندمج، تقولها الآن وقد مر على وصولها إلى أمريكا قرابة العشرين سنة. وما الذى جعلك تأخذين مثل هذا القرار؟ أسألها، وما هى أدوات الاندماج التى لديك؟ أضيف قبل أن تجيب. نصمت، فكلتانا معنيتان جدا بالسياسة وبالشرق الأوسط تحديدا، حيث جذورنا التى لا نقوى على اقتلاعها على الرغم من السفر والبعد، فها نحن نعود كل مرة وكأن شيئا قد لسعنا حين حاولنا القطع معها. «قررت أن أعزز علاقاتى مع من حولى، وأن أخرج من عقلية أن وضعى مؤقت»، تجيبنى.

يقول متحدثو اللغة الإنجليزية أن البيت هو المكان الذى يسكن فيه القلب، أما قلبى أنا فهو مثقل بأسئلة كثيرة حول الانتماء، فهل البيت هو حيث تربيت؟ وحيث تركت أشيائى لأننى كنت أعتقد أننى سوف أعود إليها؟ أم أنه مكان أنتمى إلى شوارعه ورائحة بيوته وصوت ثرثرة الجيران فى عماراته؟ أم أنه المحطة التى اخترتها الآن؟ فأسدلت قماشا على نوافذها وتعاملت مع ما حولى على أنه مكان انتمائى مادمت أقيم فيه.. ثقيلة هى أسئلة الانتماء فى زمن فرض علينا الترحال الدائم بسبب ظروف العمل وبسبب السياسة.

***

أنا عن نفسى، أستطيع أن أزعم أننى أبنى وطنا صغيرا داخل كل بيت أنتقل للعيش فيه، وأعامل كل مكان أسكنه على أنه عنوانى الدائم. لم أعتد فى كل تنقلاتى على شعور المؤقت، بل رفضت أصلا تقبل الفكرة. فحتى لو عرفت سلفا أن بقائى فى مكان ما لن يتعدى البضعة شهور، فأنا رغم ذلك أعامله على أنه مكان الإقامة الدائم، فأتعرف على البقال وأفتح حديثا مع الجيران، وأغطى السرير بمفرش أحب ألوانه.

لقد برمجت نفسى على أن تتقبل أن البيت هو حيث يستكين قلبى بوجود من أحبهم، فأرى بسماتهم على الحيطان وأسمع أصواتهم حتى حينما أكون وحدى. فمكان إقامتى هو حيث يحط بى الترحال بشكل مؤقت حتى لو امتد لسنوات، فأجلس فى مطبخ صغير أتخيل فيه مطبخا كبيرا فيه قدور على النار، أنظر من وراء الشباك فى مدينتى الجديدة فيظهر بائع غزل البنات فى الحارة القديمة، أشرب الشاى وحدى وقت المغرب فأسمع قصص والدتى وصديقاتها تتهادى من بعيد. أتمدد على الكنبة فأعود طالبة فى المرحلة الثانوية أمامى كتب التاريخ أحضر فيها لامتحان. مكان الإقامة المؤقت يصبح بالنسبة لى دائما إذ أخرج فيه كل ما حملته معى فى شنطتى السحرية: سهرة مع أصدقاء قد نضحك فيها ونبكى معا، كتبا خرقت خصوصيتها فدونت ملاحظات فى طرف بعض صفحاتها ها هى الآن مفرودة أمامى، علب التوابل المرصوصة بعناية إذ لا شىء يعيدنى إلى مطبخ أمى مثلها. بيتى فى حقيبة، أتراه عنوانا يليق بحال كثير منا اليوم؟

***

قد يكون من الترف اليوم الحديث عن الانتماء والوطن فى ظل التغريبة السورية الهائلة، التى لم تظهر بعد كل نتائجها طويلة الأمد، وإن بدأت تظهر بسببها تشققات فى القلوب لم نكن نعى فداحتها. أم أنه بات من الضرورى، أكثر من أى وقت مضى، أن نعزز شعورنا بالمكان ونسميه بيتنا أو وطننا، فنبنيه كما نحب، ونغنى شيئا على وزن «العنوان الدائم الذى فى خاطرى؟»

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات