الدستور عندما لا يكون مهذبًا - أميمة كمال - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدستور عندما لا يكون مهذبًا

نشر فى : الأحد 9 ديسمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 9 ديسمبر 2012 - 8:00 ص

ساقتنى الأقدار إلى أن أقرأ تصريحا لرئيس الغرف التجارية يبوح فيه بأنه أرسل للجنة التأسيسية يطلب منها أن تتضمن مسودة الدستور (الذى هو دستور الثورة) النص على أن النظام الاقتصادى فى مصر هو «اقتصاد سوق مهذب». ولأننى لم أعرف ما هو مفهوم التهذيب من وجهة نظر رجال الأعمال، فكان لا بد أن أبحث عن مسودة دستورهم التى أرسلوا بها للجنة التأسيسية. ولكن وقبل أن أتصفح أوراق (الدستور الاقتصادى) الذى يحمل غلافه اسم أحمد الوكيل رئيس الغرف التجارية كراعٍ له، أحسست بأنه من الظلم أن أتحيز للدستور «المهذب»، وأهمل ذلك الدستور الآخر الذى يدل شعاره على واضعيه وهو (العمال والفلاحون يكتبون الدستور).

 

لأننى ضبطت نفسى أكثر من مرة، وأنا ألتمس الأعذار، بل أبرر لهؤلاء الشباب الغاضب الذين امتلأت بهم ميادين مصر، على مدى العامين الماضيين، وهم يطلقون شعارات لا تمت للتهذيب بأى صلة، فخشيت أن توسوس لى نفسى وهى الأمارة بالسوء غالبا، وأن أميل لذلك النوع من الدساتير غير المهذبة. وقررت أن أتغلب على هذا الوسواس، وأن أقرأ دستور رجال الأعمال بمنتهى الحيادية. والحقيقة أن التهذيب بدا واضحا من الصفحة الأولى التى تحمل تحية وتقدير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولمجلس الوزراء. فأسرعت للصفحة الأولى لدستور العمال والفلاحين فوجدتهم يهدون الدستور إلى «كل من خرج يوم 25، و28 يناير وكان يعلم أنه قدلا يعود».

 

●●●

استعذت بالله من الشيطان الرجيم حتى لا تميل نفسى، وتدفعنى إلى التحيز لأحد الدستورين، قبل أن أمعن النظر فى محتوى كل منهما. فوجدت أن دستور رجال الأعمال يطالب بالتفرقة بين الحد الأدنى للأجور فى القطاع الخاص، وبين القطاع العام والحكومة. بحيث يتناسب فى الأخيرين مع عناصر أساسية فى تكلفة المعيشة. ويقصدون بهذه التكلفة (إيجار المسكن إيجارا جديدا، مع متوسط تكلفة سلة الغذاء للفرد فقط) أما بقية المعيشة من تعليم وصحة ومواصلات وغيرها فلا تدخل فى الحسبان. ورأى رجال الأعمال أن يكون الحد الأقصى للأجر يساوى 40 ضعف الحد الأدنى. أما بالنسبة للقطاع الخاص فلا يتم احتساب الحد الأدنى للأجور بالراتب الشهرى، ولكن يكون الأجر محسوبا عن كل ساعة عمل. وأن يتم ربط الأجر بالإنتاجية.

 

ولأن إعانة البطالة تدفعها الحكومة وليس رجال الأعمال فكان دستورهم سخيا. واقترحوا فيه إعانة للبطالة مشروطة بعدم وجود فرصة عمل. ولكن لأنهم اعتادوا على التمييز فى الأجور بين العمال والعاملات فقد اقترحوا أن تحصل العاملات المتزوجات ولديهن أطفالا على 50% فقط من إعانة البطالة، ولمدة محددة بغرض أن تفسح مجالا لعمل الرجال.

 

وعندما أرادوا أن يفتحوا باب التأمينات فى الدستور لم يجدوا مطلبا ملحا لديهم أكثر من المطالبة بإلغاء عقوبة الحبس فى حالة مخالفة صاحب العمل للحقوق التأمينية للعمال، والاكتفاء بالغرامة، وكذلك تخفيض التأمينات من 40% إلى 20%. ويبدو أن الأدب الزائد هو ما منع رجال الأعمال من النص فى دستورهم على أى بنود خاصة بحق العمال فى نصيب من أرباح الشركات، أو حق التمثيل فى مجالس إدارتها. أو بحماية العمال ضد حالات الفصل التعسفى، أو النص على حقوق العمال فى حال غلق بعض رجال الأعمال لمصانعهم حاملين معهم مفتاح الرزق. ولا حديث لهم مطلقا عن حق الإضراب للعمال. أو حق تأسيس نقابات عمالية فى مواقع الإنتاج.

 

●●●

 

ويبدو أن الدستور المهذب هذا لا يناسب مزاج من اعتاد على غياب الأدب فى شعارات الغاضبين فى الميادين لذلك تحولت عنه إلى «دستور العمال والفلاحين» الذى يتحدث عن «الحق فى حد أدنى للأجور يتم إقراره على المستوى الوطنى، أى على القطاع العام، والحكومى، والخاص. ويكون كافيا لإشباع احتياجات المعيشة للعامل وأسرته من حيث المسكن، والغذاء، والتعليم، والصحة، والملبس، والنظافة، ووقت الفراغ. مع إدخال زيادات تتوازن على الأقل مع نسب التضخم. وربطه بحد أقصى للأجور لا يزيد على 15 ضعف الحد الأدنى لتقريب الفروق فى الدخول». وينص العمال والفلاحون فى دستورهم المقترح على أن للنساء العاملات نفس حقوق الرجال فى العمل. ويعتبر باطلا أى نص فى عقد يحتوى على انتقاص من حقوق النساء.

 

ولأن واحدا ممن وضع دستور العمال والفلاحين لم يعرب عما إذا كان يفضل نظام السوق المهذب أو غيره، فرحت أبحث فى تفاصيل دستورهم عن أى نظام يفضلونه، فوجدت أنهم ينصون فى دستورهم على حق العمال فى نسبة من الأرباح لا تقل عن 10% سنويا. وأن يختار العمال ممثليهم فى مجالس إدارات الشركات العامة والخاصة. ولأن العمال والفلاحين هم الأكثر لسعا من شوربة النظام القديم برجال أعماله، فهم لم ينسوا النص فى دستورهم على أن يكون لكل عامل وعاملة الحق فى تكوين نقابة مع غيرهم. وهذه النقابات بعمالها لهم الحق فى الإضراب. وتضمن الدولة عدم تعرض أى عامل للعقاب، بسبب مشاركته فى حركة احتجاجية. وفى حال إغلاق شركة أو تصفيتها تكون الأولوية لحقوق العمال ولايتجاوز الوفاء بهذه الحقوق ثلاثة شهور. أما الحديث عن التأمينات الإجتماعية فكان محددا بتكوين هيئة مستقلة لإدارتها، واعتبار أموالها خاصة بالمؤمن عليهم فقط، ولا يجوز لأى مؤسسة فى الدولة التدخل فى إداراتها، أو سحب أموالها. وكان لا ينقص هذا الباب من تفصيل سوى الدعاء بـ«الله لا يرجع أيام يوسف بطرس غالى».

 

ولا أعرف ما إذا كان من باب التهذيب أو عدمه أن يطالب دستور العمال والفلاحين بأن تكون الحدود القصوى لتملك الأراضى الزراعية مائة فدان للأسرة. وأن يحظر طرد الفلاح من أرض يفلحها إلا بموجب حكم قضائى نهائى ومقابل تعويض.

 

●●●

 

ومن باب الإنصاف نقول إن مسودة دستور «الغريانى» التى يقول المشاركون عنها إنها ستكتب فى التاريخ بحروف من نور، جاءت فى بعض جوانبها أكثر تهذيبا من مسودة رجال الأعمال. حيث نصت على أن الأجر يرتبط بالإنتاج، وليس بتكلفة المعيشة كما جاءت فى مسودة رجال الأعمال. ولم تنص المسودة (التى ستدخل التاريخ) على أن الحد الأدنى للأجر يشمل القطاع الخاص وهو ما يفتح الباب لتهرب القطاع الأخير من هذا الحد. كما أن المسودة لم تنص على نسبة الحد الأقصى للأجور مقارنة بالحد الأدنى، بل على العكس فتحت الباب لأول مرة للاستثناء من هذا الحد بمقتضى قانون. بحيث لا يكون من حق أحد أن يسأل بعد ذلك عن رواتب رؤساء الحكومات، والوزراء، ورؤساء البنوك، وشركات البترول وكثيرين غيرهم من الذين سيستفيدون حتما من الدساتير المهذبة. وحتى نصيب العمال فى الأرباح الذى كان منصوصا عليه فى القوانين فى القطاعين العام والخاص بنسبة لا تقل عن 10% تركه دستور الثورة بدون تحديد. أما التأمينات الاجتماعية فجاءت فى مسودة الدستور فى سطر واحد (الدولة تحمى أموال التأمينات). فى نفس الوقت الذى كان فيه الجميع يتطلع إلى دستور يصلح ما أفسده دهر مبارك من سلب لحقوق الملايين من أصحاب التأمينات.

 

ومن باب ذر الرماد فى العيون فقد نص دستور ما بعد الثورة فى مسودته على أن يمثل العمال والفلاحون بنسبة لا تقل عن 50% من عدد أعضاء مجلس النواب المقبل فقط. بينما سيتم سحبه فى المجالس المقبلة. عمركم شفتم تهذيب أكثر من كده؟.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات