مفاتيح التنمية الاقتصادية لمصر - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مفاتيح التنمية الاقتصادية لمصر

نشر فى : الأحد 12 مارس 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : الأحد 12 مارس 2023 - 8:10 م
باستثناء فترات قصيرة معدودة، عاش الاقتصاد المصرى على مدى أكثر من خمسة عقود من أزمة إلى أزمة، لا تختلف فيما بينها إلا فى مدى شدتها، وبوجه خاص ما تضعه من ضغوط على المالية والمديونية الحكومية، بينما ظل الاقتصاد المصرى يراوح مكانه من حيث وضعه بين اقتصادات العالم، وتركيبته ومستوى التصنيع فيه، والقيمة المضافة المحلية التى يولدها، والقدرات التكنولوجية التى يمتلكها، ومستوى معيشة السواد الأعظم من السكان، والذى يعد جوهر أداء الاقتصاد والهدف الأهم للسياسات الاقتصادية.

لم يكن هذا بسبب غياب العزم أو قلة البرامج الاقتصادية أو عدم الاستفادة من الخبرات الدولية، بقدر ما كان نتيجة لضيق نطاق هذه البرامج ومحدودية طموحها، وغلبة مفهوم الإنقاذ والخروج من الأزمة على مفهوم التنمية الاقتصادية الشاملة الدائمة، بغض النظر عن الشعارات المعلنة. لهذا ظلت مصر ضحية دورة متكررة تبدأ بأزمة حادة فى الموازنة وميزان المدفوعات وهروب رأس المال وبالتالى اضطراب سعر الصرف، فتلجأ إلى إصلاحات كلية قاسية أهمها «تحرير» سعر الصرف وخفض الإنفاق العام ورفع الضرائب وسعر الفائدة، فتتحسن هذه المؤشرات الكلية، ثم تأتى مرحلة ثبات تواجهها الحكومة بالتوسع فى المشروعات العامة الكبرى لخلق فرص العمل، فيؤدى ذلك مجددا إلى اضطراب الموازنة وميزان المدفوعات، ومن ثم سعر الصرف، حتى تصل إلى الأزمة، وهكذا.

دراسة هذه التجارب، وغيرها من تجارب التنمية عالميا، ما نجح منها وما لم ينجح، يجعلنا نخرج بسبعة مفاتيح رئيسية لتحقيق التنمية الاقتصادية فى مصر، التى ترتفع بمسوى المعيشة وقوة الاقتصاد، ومن ثم تعزز من القدرة على مواجهة الأزمات. وهذه المفاتيح هى:

أولا: الارتقاء بالموارد البشرية: فهى المصدر الأصلى للتنمية، وتوافرها بالكمية والجودة المناسبة يتيح الاستفادة من باقى عوامل الإنتاج من رأس مال وموارد طبيعية، ومن المزايا النسبية المتاحة، بينما يؤدى غيابها إلى إضعاف قدرة الاقتصاد على النمو مهما امتلك من مقومات. هذا يستدعى تطبيق سياسات تبنى قوة بشرية مؤهلة للعمل فى العصر الحالى، ومواطن لديه عقلية مُبْتَكِرة ومُبَادِرَة، ومواطن ومستهلك رشيد متوازن، قادر على إنجاز التحولات التى تحتاج إليها مصر للحاق بالمستقبل.

يشمل ذلك تحديث التعليم من حيث المناهج ومن حيث أسلوب التعليم بكل أنواعه، العام والفنى والجامعى، وتعليم اللغات العربية والأجنبية وتكنولوجيا المعلومات، ومحو أمية.. إلخ؛ وتطوير برامج التدريب، لعلاج أحد أهم معوقات النمو فى مصر، وهو نقص العمالة الفنية والماهرة. كما يشمل الارتقاء بمستوى الصحة العامة، ليكون لدى العامل القدرة البدنية والذهنية التى تؤهله للقيام بعمله.

وأخيرا، فإنه يشمل تطوير القيم والوعى المرتبطين بالعمل، وهو أمر لا يقل أهمية عن التعليم والكفاءة، وذلك من خلال الإعلام وبرامج توعية مخصصة للإعداد لسوق العمل ونشر القيم ذات الصلة مثل الإتقان والدقة والالتزام والصدق والرغبة الدائمة فى التعلم وبناء الثقة فى النفس والغير.. إلخ، ومقاومة الخصائص التى تخلق إنسانا مضطربا مشوشا قليل الفائدة فى العمل وفى مقدمتها التملق والجبن وتجنب المسئولية وعقدة الاضطهاد ونظرية المؤامرة ورفض تعدد الآراء والاستسهال.. إلخ.

ثانيا: رفع كفاءة الجهاز الحكومى: حيث لا توجد سابقة لمشروع تنموى ناجح دون جهاز حكومى كفء ونزيه. وهذا يتعلق بمعايير اختيار العاملين والعاملات، وتحسين الأجور، والتدريب، ومنهج التصعيد واختيار القيادات، وتحديث المؤسسات من حيث نظام عملها ومن حيث حالتها المادية من مبانٍ وأثاث ومعدات وتجهيزات وتكنولوجيا.. إلخ، ومستوى التكامل بين المؤسسات وآليات التعاون والتنسيق فيما بينها. هذا يتطلب تكليف الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة بالتعاون مع رئاسة مجلس الوزراء وبعض خبراء الإدارة العامة المتميزين بإجراء دراسة شاملة ومتكاملة لحالة الجهاز الحكومى وتوصياتها لتطويره، كما يتطلب الاستعداد لزيادة الاستثمار فى جهاز الدولة بشكل ملموس.

ثالثا: إطلاق المبادرة الفردية: فمع الأهمية الكبرى لدور الحكومة فى قيادة المشروع التنموى، فإن ترجمته إلى واقع تتوقف على قرارات الأفراد والقطاع الخاص، واللذان يمثلان معا أكثر من ثلثى الاقتصاد. فقرارات هؤلاء المتعلقة بالادخار والاستثمار والعمل والإنتاج والاستهلاك، وما يقدمونه من مبادرات وابتكارات وعمل سعيا إلى منفعتهم هى التى تصنع فى مجموعها مصلحة المجتمع، الذى لم تنجح الحكومات فى تحقيقه بشكل مستدام قط فى مختلف التجارب. فقد أكدت تلك التجارب أن وجود الحكومة، بشكل مباشر أو غير مباشر، فى أسواق الإنتاج أو الخدمات أو التسويق أو التصدير أو الاستيراد يقوم بدور طارد للقطاع الخاص لأسباب متعددة، أهمها أنه يخلق حالة عامة منحازة لصالح المشروعات الحكومية فى توفير فرص النشاط، وفى تعامل الأجهزة الحكومية فى الموافقات والتراخيص والأرض والمرافق، وفى الضرائب والتشريع وتطبيق القواعد والعدالة.. إلخ، وهو ما يقضى على المنافسة المتكافئة، وبالتالى يطرد الجانب الأكبر من القطاع الخاص «المفيد»، ويحرم المجتمع من المبادرات والأفكار الجديدة والروح المتوقدة للمستثمر الخاص، فلا يبقى إلا مشروعات بروح بيروقراطية، والقطاع الخاص الباحث عن الربح السريع.

مؤدى ذلك أن تركز الحكومة عملها فى توفير الإطار التنظيمى والتشريعى والإدارى الكفء والمشجع لعمل القطاع الخاص، والضابط له فى نفس الوقت، وتحسين البنية الأساسية، وتقوية آليات التوازن الاجتماعى، وألا يزيد دورها على ذلك، إلا فى حالات محدودة للغاية، ولأسباب معروفة ومعلنة، مثل إطلاق صناعة معينة، أو لتوطين صناعة استراتيجية، أو لاعتبارات اجتماعية ملحة.

رابعا: تطوير السياسة الاقتصادية الخارجية: ذلك ببناء الروابط الاقتصادية الخارجية التى تتيح لمشروع مصر التنموى أفضل الفرص، وهو ما تعرضنا له فى مقال سابق. فما تعانيه مصر من فجوة موارد من النقد الأجنبى، واحتياجها إلى ما يأتى به الاستثمار الخارجى من معرفة تكنولوجية وصناعية وإدارية وارتباط بشبكات التوريد والتوزيع العالمية، يجعل الاستثمار الأجنبى المباشر احتياجا حيويا لخلق فرص العمل وزيادة القدرة الإنتاجية، وتطوير ثقافة الأعمال، وخاصة الصناعية فى المجتمع. والحقيقة أن جذب الاستثمار المباشر عملية معقدة وبها منافسة عاتية، لذا ينبغى أن تتم من خلال خطة مدروسة، وأن يتم توفير الشروط اللازمة لها، وأن تكون انتقائية، لكى تحقق أفضل عائد اقتصادى. هذا بجانب العمل على توسيع الفرص المتاحة للصادرات المصرية، بما فى ذلك ما تنفذه شركات المقاولات المصرية من مشروعات فى الخارج.

خامسا: توفير مناخ داعم للنمو بمفهومه الواسع: وهو ما يشمل، بجانب أمور حققتها مصر بقدر معقول من النجاح مثل الأمن، والاستقرار المالى والنقدى، وتطوير البنية الأساسية، مسائل أخرى على نفس القدر من الأهمية، فى مقدمتها شفافية وحياد الإدارة الحكومية، وحداثة وانضباط ونزاهة منظومة العدالة التى تشمل التشريعات والقضاء وأدوات إنفاذ القانون، والاستقرار السياسى القائم على غياب أسباب التوتر أو الانقسام أو الاحتقان التى قد تفتح احتمالات الاضطراب المستقبلى، وتوافر قاعدة متنامية للبحث والتطوير.

سادسا: إعطاء الصناعة الأولوية الأولى: لأنها هى التى تبنى قاعدة صلبة للاقتصاد تمكنه من الصمود فى مواجهة التقلبات الاقتصادية الداخلية والخارجية، وللحد من الاعتماد على مصادر الدخل والنمو الهشة أو المتقلبة أو قصيرة العمر مثل السياحة وأكثر الخدمات وتحويلات العمالة فى الخارج والبترول والغاز. والمقصود هنا الصناعة ذات القيمة المضافة المحلية والمكون المعرفى الكبيرين، لا صناعات التجميع أو الصناعات البسيطة محدودة الوزن.

سابعا: إصلاح وتحديث القطاع الخاص: من خلال أدوات ضريبية وتشريعية ولائحية تدفعه نحو الارتقاء بشفافيته، وزيادة الحوافز على التوسع فى نشأة المشروعات الكبيرة كشركات مساهمة لكى لا يقتصر الأمر على صيغة المشروع العائلى، وتعميق العمليات الصناعية التى يجريها فى نشاطه لرفع درجة تنافسيته وزيادة فائدته للاقتصاد الوطنى، وعدم التردد فى إخضاع الشرائح العالية من الأرباح لمعدلات ضريبية أعلى لتتمكن الموازنة من تمويل باقى مفاتيح التنمية الاقتصادية التى يستفيد منها القطاع الخاص.
• • •

وكما هو واضح، فإن أكثر هذه المحاور تتناول تغييرات كبرى فى السياسات ومناهج العمل والتفكير، مقترنة بزيادات محدودة فى الإنفاق العام، لأنها تستهدف فى الأساس إحداث نقلة نوعية فى حجم الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية.

وأخيرا، فهذه المفاتيح السبعة ضرورية جميعها، ليس بينها ما يتقدم فى أهميته على الباقين. كما أنه لا يمكن تطبيقها بالتتابع، لأنها فى الحقيقة متكاملة، وبدون التحرك عليها جميعا بالتوازى وبشكل متزامن فإن أى إنجاز يتحقق فى أى منها معرض للإهدار، بينما يؤدى التحرك عليها جميعا مضاعفة أثر كل منها. كما أن هذه المفاتيح تتقدم على غيرها من محاور وبرامج العمل الاقتصادى، بما فيها مشروعات البنية الأساسية أو الامتداد العمرانى المرتبطة باحتياجات مستقبلية، التى ينبغى تأجيلها لحين وقوف الاقتصاد على أسس إنتاجية قوية، توفر الفوائض اللازمة لتلك الأغراض.
أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات