من خارج الخدمة - سلامة أحمد سلامة - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 7:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من خارج الخدمة

نشر فى : الأربعاء 12 أغسطس 2009 - 11:41 م | آخر تحديث : الأربعاء 12 أغسطس 2009 - 11:41 م
لا ينقطع الكاتب أو الصحفى عادة بإرادته، ولا ينصرف عن الكتابة إلا إذا حالت دونه أسباب قهرية كالمرض أو السجن أو ما شابه. ولا يفتقد القارئ كاتبه بنفس القدر الذى يفتقد الكاتب قارئه. بل تظل ثمة علاقة غامضة تربط بينهما.. أحدهما يتحرى عن الآخر ويلاحقه، وهو يحاول الوصول إلى ما يدور فى عقله من أفكار وأوهام بهدف التأثير أو التأثر بها.

مناسبة هذا الحديث هى انقطاعى عن القارئ أسابيع طالت بعض الشىء.. غيبنى خلالها المرض، وشعرت بحجم السأم والفراغ والعجز الذى يعيش فيه المصريون بعد عودتى من رحلة سقيمة وضعتنى على الحافة بين الحياة والموت.. فلم أجد شيئا حولى قد تغير.. ذهبت إلى المرض ومشكلة الإنفلونزا فى مصر والتى كانت محصورة فى الطيور فى المناطق الريفية تتصاعد وتتفاقم لتنتقل إلى البشر. وحين عدت منه كانت الطيور قد تحولت إلى خنازير. وأصبح الخوف من انتقال العدوى من الآدميين إلى الخنازير وليس العكس.
وفى كل بلاد العام اتخذت احتياطات لحصار الوباء ومنع انتشاره.

أما فى مصر فقد اكتفى كثيرون بوضع الكمامة على وجوههم. ومن الطبيعى أن يلعب ارتفاع درجة الوعى لدى الناس فى الدول المتقدمة دورا مهما فى الوقاية من المرض وتجنب الاختلاط الذى يؤدى إلى انتقاله. ولهذا السبب لم تقع فيها خسائر أو إصابات بأعداد كبيرة كما حدث فى مصر، ولم نسمع عن مذابح وحشية تعرضت لها قطعان الخنازير التى تعتبر ثروة حيوانية يجب المحافظة عليها. أما فى مصر فقد أدى ارتباك الحكومة وتضارب القرارات وانعدام الوعى بأسباب الوباء وطرق مكافحته إلى شيوع حالة من الرعب الممزوج بالجهل أو عدم الاكتراث وشيوع اعتقاد بأن التخلص من الخنازير وإعدامها، سوف يخلصنا من المرض.

وسمعت من صديق أجنبى يقيم فى مدينة أكتوبر، أنه اضطر إلى ترك مسكنه والبحث عن غيره، لأنه لم يكن يستطيع أن ينام بسبب أصوات العويل وصراخ الخنازير التى كانت تنبعث وسط الليل، حين كان يتم إعدامها بطريقة وحشية وأساليب بدائية فى منطقة صحراوية قريبة.. لم يفت الفضائيات الأوروبية نقلها وتسجيلها.

كانت إنفلونزا الخنازير من أهم المشاكل التى شغلت المصريين قبل أن أذهب إلى المرض، وما زالت من أهمها بعد عودتى. ولكن الصحفى مهما فعل لا يمكن أن يضع ذاكرته واهتماماته «خارج الخدمة» ولا يملك أن يعطل نفسه عن متابعة الأحداث وتداعياتها والكتابة عنها والتعليق عليها كلما استطاع.

وقد حاولت بالفعل أن أغلق أجهزة الاستقبال وأبقى «خارج الخدمة».. فلا أتابع غير نشرات التاسعة من التليفزيون المصرى بأخباره الرتيبة المكررة عن الاستقبالات الرسمية، والصراعات الساخنة بين فتح وحماس والجهود المصرية والعربية للوساطة بينهما. وقد لاحظت مدى الفخامة والأناقة والسيارات الفارهة التى تتحرك فى الأفق الفلسطينى البائس مع حفنة من القيادات «المناضلة» فى الفراغ. ولا تبقى فى نشرات الأخبار بعد ذلك غير أنباء القتال فى أفغانستان والمذابح فى العراق والتفجيرات الدامية فى باكستان واليمن وأندونيسيا.

وإذا كنت على قدر من الاهتمام بالشئون الداخلية، فالمشكلة الرئيسية فى معظم الأسر المصرية هى التنسيق ومجاميع الثانوية العامة التى يقود معظمها إلى كليات وهمية وجامعات مزيفة تتكاثر كما يتكاثر الفِطر فى أرض يباب. ولا يمكن أن تختتم النشرة بعد ذلك إلا بخبر أو اثنين عن ضبط خلايا إرهابية هنا وهناك، وعن ملاحقة التنظيم الدولى السرى للإخوان.

أما الجديد الذى تنفرد به مصر وتتابع الحكومة انتشاره على استحياء، فهو انتشار وباء التيفود فى عدة قرى فى الوجه البحرى، بسبب اختلاط مياه الشرب ومخلفات المجارى، وهى ظاهرة قديمة متكررة فى أنحاء مختلفة من البلاد ولكنها بلغت ذروتها أخيرا فى قرية بالقليوبية. وتبدو الكارثة بغير حدود حين اعترف المسئولون بأنهم سمحوا باستخدام مياه المجارى فى رى زراعات الخضراوات والفواكه فى الحزام المحيط الذى يأكل منه سكان العاصمة.

لا تكتمل الصورة التى تعيد إليك ورغما عنك خطوط الاتصال بما جرى ويجرى فى المحروسة، حتى نتمنى لو بقيت هذه الخطوط مقطوعة وظللت بقية عمرك معزولا عن هذا العصر.. عندما تحمل لك فضائيات ووسائل إعلام غير حكومية قصة الفتوى التى تؤكد شرعية تزغيط البط. أو محاكمة المرأة السودانية التى تجاسرت وارتدت بنطلونا واعتبرت خارجة على الدين والشرع. وتكتمل «الصرعة» بالجدل الدائر حول العمرة والحج وهل يتم إلغاء الموسم بأكمله بسبب إنفلونزا الخنازير. وما أكثر الفتاوى والآراء والقرارات التى تتلاطم حول هذا الموضوع فى محيط الرأى العام حتى الآن!

هل هناك ما يدعو الصحفى للاعتزال والكاتب أو الأديب للخروج من الخدمة وطلب التقاعد بسبب انسلاخ العمر وتقدم السن، أو بسبب المرض أو العجز عن تقبل الأحداث واستيعاب ما يقع من مفاجآت وكوارث، والقدرة على التعايش مع الحاضر. أدباء كثيرون بل معظمهم بقى يمسك القلم أو يملى إبداعه حتى الأيام الأخيرة من عمره. والذين رافقوا نجيب محفوظ عن قرب رأوا كيف بدا الرجل حريصا على متابعة ما يجرى من أحداث وأن يسجل خواطره وآراءه حتى آخر رمق دون أن يلزمه أحد بشىء.

ومن بين الصحفيين عمالقة لا يتكررون كثيرا بقوا «داخل الخدمة» لا ينصرفون عنها حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم. وأسهموا بمواقفهم وآرائهم المستقلة الرصينة فى صياغة الحياة السياسية والفكرية فى مصر.. مثل الحمامصى ومصطفى أمين وموسى صبرى وكامل الشناوى ومن قبلهم جيل التابعى وفكرى أباظة، وأخيرا تلك الشمعة التى مازالت تضىء فى آخر النفق محمد حسنين هيكل.

باستطاعة الصحفى أن يبقى «خارج الخدمة» متى أصابه إرهاق المهنة أو طاردته شياطين السلطة. وكثير من الصحفيين هم «خارج الخدمة» بالفعل، بغض النظر عن أعمارهم.. إما برضاهم لأن الصحافة تتحول تدريجيا إلى مهنة هامشية، ويخشى أن تكون فقدت كثيرا من شروطها ولياقتها. ولكن الأغلبية الغالبة من الصحفيين تسعى لأن تكون «فى الخدمة» أو «تحت الخدمة» أو «تحت الطلب»، لأن النظام السياسى والاجتماعى فى مصر يريد أن يكون الشعب بكل فئاته فى خدمته وليس العكس. ولهذا لم تكن مفاجأة أصابت الرأى العام بالذهول حين وقف الشاب البورسعيدى «بظاظو» وعبر بجرأة عن رأيه فى البلد وفى الحكومة، وقال لرئيس الوزراء إنه يشعر بأن الوطن ليس وطنه.

هذا الشاب سوف يأتى من يحاول ترويضه وتهذيبه وتبطيطه لكى «يدخل الخدمة»، مثلما يحدث مع كثير من أصحاب الرأى والصحفيين فى مصر!!

 

سلامة أحمد سلامة صحفي وكاتب مصري كبير وصاحب آراء ليبرالية قوية وجريئة وبناءة في مسيرة الصحافة العربية. يشغل منصبي رئيس مجلس تحرير جريدة الشروق ورئيس مجلس تحرير مجلة وجهات نظر. هو صاحب العمود اليومي من قريب في جريدة الشروق وكان في السابق نائبا لرئيس تحرير الأهرام.
التعليقات