حِكمَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حِكمَة

نشر فى : الجمعة 15 فبراير 2019 - 10:55 م | آخر تحديث : الجمعة 15 فبراير 2019 - 10:55 م

على شارعٍ رئيس بوسطِ المدينة، يقع مَبنى دار الحكمة. المَبنى كما يعرفه الجميع خاص بنقابة الأطباء؛ مَوضِع تلاقيهم واجتماعهم واتحادهم، والمُدافع عن مِهنتِهم، والساعي وراء حقوقِهم. يحمل مُصطلح ”النقابة” في تعريفه الكثير مِن الوظائف المُهمة والأعمال، لكنه في الوقت ذاته لا يحِلُّ في الأذهان مَحلَّ ”دار الحكمة”؛ العنوانُ القديم المُستقر لعقودٍ على الجدران، والذي يبدو في وقعِه أكثر بهاءً ومهابة مِن المُسمَّيات المُستحدَثة جميعها. دار ”الحكمة”؛ أي بيتُها ومَوطنُها، حيث يُكنى الطبيبُ بالحكيم؛ في إشارةٍ إلى رجاحةِ عقله، ورزانةِ قراره، واتزانِ أفعاله.
***
غنَّى عبد الوهاب ”حكيم عيون أفهم في العين“ بفيلم رصاصة في القلب، وردَّت عليه راقية إبراهيم بالسؤال الشهير: ”حكيم روحاني حضرتك؟“ ولم يكُن حكيمًا ولا طبيبًا، بل عاشقًا تفضحه اللفتاتُ والاختلاجاتُ، وتشي بما في نفسِه، دون أن يتحرى الحِكمَةَ أو يلتزم المُواراة.
***
لا يمتَهِن الحكيمُ بالطبع تخصُّصًا وحيدًا، فالحِكمة مَفهومٌ واسع، يتحلى به قليلُ الناسِ ويطلبه كثيرُهم؛ صدقًا أو قولًا عابرًا. تتكرر عبارةُ ”حكمتك يا رب” مرات لا تُحصى كُلَّ يوم، تطرق مسامعَنا جالسين وسائرين؛ قد يطلقها اعتيادًا صاحبُ كَللٍ ومَلل، وقد يستجير بها صاحبُ ابتلاءٍ، وهي على كُلِّ حال استغاثةٌ مِن بين عديد الاستغاثات؛ تستنكر اللا مَعقول وتستلهِم إزاءَه الصبرَ. تُعرِّف القواميسُ الحكيمَ بأنه الشخصُ الذي يدرك الأشياءَ، ويُحكِم صُنعها، ويُتقِنها بأفضل الأدواتِ والعلوم، وعليه فإن ربُّ الحِكمَة هو الحَكيمُ العالمُ بالبواطِن. يُطلَق وصفُ الحكيمِ كذلك على القاضي أو الحَاكِم؛ كلاهما سواء، ومنها أن الحُكمَ هو العِلمُ والفِقهُ والقضاءُ العادل.
***

كان توفيقُ الحكيم حكيمًا؛ فعلًا لا اسمًا فقط؛ له باع مِن العلم، ورأيٌ مَبنيٌّ على درجة مِن المَعرفة؛ يدعمها إعمالٌ مُتواصلٌ للعقل. وضع على لسان الحمار بعضًا مِن أفكاره، واشتهر لطرافة اختيار المُسمَّى كتابُه: "حمار الحكيم"؛ بكل ما تضمَّن مِن إيحاءات ودلالات. وجد الحمار من يدافع عنه، ومَن يسبغ عليه جَميلَ السماتِ، وكان لاقترانِه بالكاتب العظيم وقعٌ لطيف.
***
دَرَجنا على وضعِ حِكمَةِ الكبار مُقابل طيشِ الصغارِ ورعونتِهم، مع ذلك لا ينفكُّ السؤالُ يطرح نفسه: هل الحكمة مقرونة أبدًا بتقدم العمر؟ هل هي حكر على مرحلة بعينها؟ تقدِّم لنا الدراما حُكماءً لا يشذون عن القالب المُتعارف عليه، وتصبُّ في وعينا نمطًا لا يتغير؛ امرأة عجوز أرهقتها السنون، أو رجل طاعن في السن قوَّض عنفوانَه الزمنُ، وعلى وجهيهما ترتسم خرائطُ الحياة ومعاركُها، وهفواتُها وزلاتُها، وكذلك مَباهجُها. ننسَجِم مع الحكاية وننسى أن غالبية المسلسلات والأفلام لا تعطينا فرصةً كي نعتقد في وجود صغار حكماء؛ فما بال الصغار والشبان وكلمة ثقيلة كهذه؟ مالهم ومفاهيم صعبة تحمل مِن الفسلفة والمَنطِق والأوجاعِ ما لا يطيق كبار راشدون؟
***
لا أظنُّ أن عددَ الخبراتِ وعمقِ التجارب مُرتبطٌ بالسنِّ تمامَ الارتباط؛ ثمَّة مواقف يتساوى أمامها البشر ما طرقَت أبوابَهم، وما اقتحمت حيواتِهم بلا استئذان. خبرةُ السجن، خبرةُ اليُتم؛ خبرةُ الجِسام مِن الوقائعِ والأحداثِ لا تحتاجُ لشعرٍ أشيب، وظهرٍ مَحنيٍّ؛ كي تُغدِق على أبطالِها الحِكمةَ، إنما تبذل عطايَها وتوزِّعها على هذا وتلك؛ لا تمنح المزيدَ للأكبر، ولا تَضِنُّ ببصماتِها على الأغَضِّ عمرًا.
***
تكوَّنت لجنةٌ للحكماءِ منذ بضعة أعوام. ضمَّت عددًا مِن أرباب الفِكر، ذوي القامة والمَكانة. كان هدفُها إنارةَ الطريق، وتوجيه الدفَّة نحو بَرّ الأمان، ونُصح الصغار، المُندفعين، الثائرين، أو ربما تهذيب مَسلكِهم وتقنين فَعيلِهم، وتجنيبهم أذىً مُحتَملٍ وخطرٍ وَشيك. مَرَّت أعوامٌ ذاق خلالها الصغار تبعات التجربةِ المَريرة، ولم تُثمِر النصائح الحكيمة عن قواربِ نجاة أو أطواقِ إنقاذ.
***
ترشَّح بوتفليقة مُجدَّدًا في انتخابات الجزائر الرئاسية. قدَّم نفسه للمواطنين بِغية الاحتفاظ بالمنصبِ العالي، والفوز بولاية هي الخامسة له منذ تولَّى الحكم في نهاية التسعينيات. بعضُ الساسةِ والمُحلِّلين رأوا أن طولَ بقاءِه في سدَّة الحُكم، أكسبه الخبرةَ وسدادَ الرأي، وجعل إعادةَ ترشُّحه عملًا حكيمًا بل وواجبًا، لكن آخرين نظروا إلى قراره كعملٍ غير مسئول، لا يليق بمَن في مثل عمرِه وحالِه؛ إذ هو تعِبٌ مُتهالك، هدَّ المرضُ جسمَه، وتعاقبت عليه الرزايا، ولم يعد في مَقدوره الإمساكِ بخيوط حديثٍ، ولا في استطاعته أداء دور الرئيس. في بعضِ الأحيان .
***
هل كان رئيس فنزويلا حكيمًا في معاداته للولايات المتحدة بجهر ومغالاة؟ أتقاس الحكمة بمضمون الفعل نفسه، أم بالقدرة على تقييم نتائجه وتبعاته؟ لو أن الحكمة في الفعل ومحتواه؛ فهؤلاء أغلبهم من الحكماء، إذ حصدوا على أرض الواقع مزايا ونجاحات، بغض النظر عما حاق بهم من غضب مرة ودهشة مرة، وسخرية مرات.
***

في طابور الصباح، وبعد قراءةِ فقراتٍ مِن الصُحف، كنا نتلقّى مُتمَلمِلات فقرةً قصيرةِ بعنوان "حِكمةُ اليوم"؛ تختارها الإذاعةُ المدرسيَّة. حكمَتنا المُتواترة كانت بطبيعةِ الحال: "مَن جَدَّ وَجَدَ ومَن زرَعَ حَصَدَ". مَرَّت أعوامٌ كثيرة، اندثرت خلالها الإذاعةُ وبهتت العناوين، ولم يعد لمفهومِ الحِكمة رونقَه المُعتاد. لم يعد في صدر المشهد سوى مَعنىً واهٍ كئيب؛ عن الحِكمةِ التي يتغطَّى بها المُتخاذلون الضُعفاء.. حِكمةُ العاجزين عن الفعل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات