الحرية المسؤولة.. سر المهنة - يوسف الحسن - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 8:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحرية المسؤولة.. سر المهنة

نشر فى : الجمعة 15 أبريل 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 15 أبريل 2022 - 8:45 م
ما أكثر أحزان ذلك الرجل، وما أصلبه وهو يتعالى على جراحه بصبر وبكبرياء أليف، فقد زوجته وولديه، وظل قويا عالى الهمة، وحينما اغتيل ولده البكر جبران فى ديسمبر 2005، خاطب زملاءه من الصحفيين، أثناء تأبينه، وواقفا أمام جثمان ابنه، وداعيا إلى الصفح، ودفن الحقد والثأر.
لم تهزمه المآسى الأسرية التى واجهها بثبات وإيمان، وكان كثير الاحتجاج على الظلم، وعلى تقييد الحرية، وقيل عنه إنه كان «رجل الهويات المتصالحة»، وبشَر باللاَ طائفية فى بلده لبنان، وكتب «التقرير الصحفى المهنى»، مثلما كتب «التقرير الدبلوماسى» أثناء عمله كدبلوماسى فى واشنطن والأمم المتحدة، ورأى فى التنوع والتعددية مصدر ثراء ثقافى.
التقيته، لأول مرة، فى مهرجان تأبينى أقامته نقابة الصحفيين اللبنانيين فى بيروت، فى صيف 2002، لتأبين رفيق العمر المغفور له تريم عمران، تبادلنا التعازى، وكلمات قليلة حول هموم الصحفى، وعن «غيوم القلق»، التى تكثفت فى سماء الوطن العربى إثر أحداث سبتمبر 2001 وتداعياتها.
فى لقائنا الثانى، الذى جرى فى أبوظبى، أمضينا وقتا غير قليل، فى ليلة من ليالى ربيع عام 2004 فى دارتنا، حيث دعوته وأصدقاء آخرين إلى مائدة عشاء، حضرها هشام شرابى، وسيد ياسين، وعدد من الدبلوماسيين والمفكرين، ممن جمعتهم ندوة فكرية، انعقدت يومها فى أبوظبى، بتنظيم من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو). سمعت ليلتها من هشام شرابى، رغم ميله دائما إلى الصمت، حديثا عن «الشيخوخة»، وأذكر أنه قال: «إن الشيخوخة لا تخيفنى، وما يخيفنى هو نهاية الصيف، وأقشعر عندما أرى نفسى وحيدا منغلقا على نفسى، ليس فى حياتى إلاَ صمتى والطبيب والدواء». (توقفت حياته رحمه الله، فى العام التالى).
فى هذا اللقاء، اقتربت أكثر من غسان توينى، حدثنا عن قلقه تجاه الأوضاع اللبنانية، وعن صحافة الأحزاب التى صارت مجرد أدوات سياسية تهيئ للفتنة والاحتراب.
لمست فى الرجل صفاء داخليا وحيوية فياضة ورؤى تمزج ما بين الواقع السياسى والفكر والتأمل، وعرفت منه أنه انتخب نائبا فى مجلس النواب اللبنانى فى الخمسينيات، وأنه ورث مهنة الصحافة عن والده، مؤسس صحيفتى «الأحرار»، و«النهار»، واشتغل فى هذه المهنة نحو نصف قرن.
قبل شهور، أهدانى صديق كتابا يحمل عنوانا مثيرا، هو «سر المهنة، وأسرار أخرى» يسجل سيرة غسان توينى السياسية والصحفية والدبلوماسية، ويسرد وقائع ذاتية مرتبطة بالمهنة وبالأحداث، ويقدم استشهادات ووقائع سياسية، ومحاكمات ومرافعات، وأجزاء غير قليلة من تاريخ لبنان المعاصر، وصحافته وأزماته وحروبه الداخلية، فضلا عن أسرار صحفية، وقصص اختفاء واغتيال لصحفيين، وحكايات ساسة، وانطباعات صاحب السيرة عن رؤساء وزعماء وعرب.
يروى غسان توينى كيف يختفى الخطاب الإعلامى من الصحيفة حينما يكون خطابها تبشيريا، ويقول إن «الصحافة اللبنانية اختصرت الصحافة العربية خلال ربع قرن، تعلمت الصحافة اللبنانية من المصريين، ما كان بدورهم قد تعلموه من الصحفيين اللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر فى زمن العثمانيين، حفاظا على حرية الصحافة».
تحدث أيضا، عن «صحافة المتاريس» فى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية فى السبعينيات، وفى زمن القتل على الهوية، وكيف كانت عملية تحرير الصحيفة تتم فى «زواريب» الطوابق السفلى.
كما روى قصص الموزعين والمحررين والإداريين العمال فى تلك الأزمنة، وذكر أسماء من اختطف أو اغتيل أو عُذب، أسماء أشخاص من كل الطوائف وأسباب الخطف متعددة، وكثير منها معارض شديد لتلك الحرب المجنونة.
تحدث أيضا عن لقاءاته مع صحفيين كبار من أمثال محمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلى أمين، وسعيد فريحة، وعن تلميذه المحبب لنفسه ميشيل أبو جودة الذى اختطف وعذب ورحل فى عام 1992.
ويقول أنسى الحاج الذى كتب مقدمة الكتاب، «إن غسان توينى وحش صحفى، وشخصية إغريقية بفكر أوروبى، وبرغماتية أمريكية، ولغة عربية لا يضيق بها».
راقب غسان توينى السياسة العربية ونقدها، فى أزمنة الحرية، ومن حسن حظه أنه غادر الدنيا فى صيف 2012، قبل أن يرى مشهد الخراب فى لبنان فى هذه الأيام.
فى حفل تأبين لنقيب الصحفيين عفيف الطيبى الذى رافقه إلى المحاكمات مرارا، مدافعا عن حرية الصحافة، قال غسان توينى: «نحن فى مهنة، بعضنا يموت فيها مرَة، وبعضنا يموت فيها مرتين، وبعضنا يموت فيها قبل أن يعيشها، وبعضنا الآخر لا يموت ولو مات».
إن سر المهنة هو الحرية المسئولة.
يوسف الحسن  مفكر عربي من الإمارات
التعليقات