لبنان أصبح مدعاة يأس. تأليف الحكومات فى لبنان أصبح أعقد من صياغة نظام عالمى جديد. ما بين لبنان البلد ولبنان الدولة، لا بد من محاولة تلمس المخارج.
لطالما كان لبنان يستوعب ما يفرزه الإقليم إيجابا وسلبا. فى السياسة والثقافة والفن والمال والمصارف. ما يحدث اليوم هو انقلاب فى الأدوار. لبنان الذى كان يعبر عن المنطقة أصبح يعبر عن نفسه فقط وربما أصبح عبئا على أشقائه العرب. هل هو انطباع خاطئ من إنسان مُحب لبلاد الأرز بلغ به الضجر حد اللامبالاة إزاء المشهد اللبنانى بعدما كان مُدمنا لسنوات طويلة على رصد التفاصيل اللبنانية، أم أن لبنان أصبح اليوم عصيا على الفهم؟ وهل بيروت لم تعد تفرز إلا أسوأ ما عندها وهى التى كانت تمتص لعقود أسوأ ما تفرزه المنطقة وتحوله عنصر تحفيز وحياة؟
لا أزعم معرفة أجندة إدارة الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن. لكن لنتفق على أن الحضور الأمريكى السياسى والعسكرى فى منطقة الشرق الأوسط ينتقل من الاشتباك السلبى إلى الاشتباك الإيجابى. من الاشتباك الذى يقتصر على الميدان والعقوبات إلى سياسة المزج بين التفاوض والإغراءات والعقوبات. عملية تقاس بميزان سلم الأولويات الأمريكية. لذلك، تبدو أزمة لبنان فى أسفل قائمة الأولويات الأمريكية.
فى طهران، تبدو الصورة مختلفة. تتزامن الانتخابات الرئاسية المحسومة النتائج مع عقوبات غربية سارية المفعول ومفاوضات نووية حامية. وبالرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التى تواجه الشعب الإيرانى، لا يبدو أن طهران فى وارد التفاوض على نفوذها الإقليمى (أذرعتها) ولا على صواريخها الدقيقة أو البالستية، ولو تحت ضغط انهيار التومان فى طهران والريال فى العراق والليرة فى سوريا ولبنان.
•••
فى لبنان، هناك من يطالب بالنأى بالنفس عما يجرى فى الإقليم. فى المقابل، يبدو المشهد العربى مختلفا. الدول العربية تنأى بنفسها عن التفاصيل المحلية للسياسة اللبنانية. مواقف وسلوكيات الطبقة السياسية فى لبنان تساهم فى فقدان الاهتمام العربى إلى حد النأى بالنفس عن لبنان. معارك لبنانية صغيرة وربما تافهة تُخاض فى خضم أم المعارك فى المنطقة، إلى درجة أن العواصم العربية أصبحت ترى لبنان بعين المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، بينما يرى السياسيون اللبنانيون أنفسهم من منظار زواريبهم الطائفية والمذهبية والشخصية الضيقة.. إلى درجة تجعل الخارج يزداد قناعة أن هذه الطبقة السياسية اللبنانية يصعب استبدالها ولا يمكن العمل معها أو حتى تغيير سلوكها.. وثمة استحالة فى إنتاج بديل لها!
فى الخلاصة، ترى العواصم المعنية أن أزمة لبنان هى أزمة فاقدة للنضج المطلوب لصنع سياسة مستدامة تجاه بيروت. باستثناء فرنسا التى تأهبت للمساعدة بعد تفجير مرفأ بيروت فى الرابع من أغسطس ٢٠٢٠م، تنتظر العواصم المعنية نضوج المسألة اللبنانية أو أن يتولى الخارج إدارة ملف لبنان كما درجت العادة منذ تأسيس لبنان قبل مائة سنة حتى الأمس السورى القريب!
لبنان البلد الصغير بمساحته ما زال يحمل كل العناصر التى تجعله مهما من الناحية الاستراتيجية. فى الميزان الدولى هو بلد استراتيجى بالرغم من فشل طبقته السياسية. هنا علينا التفريق بين لبنان البلد ولبنان الدولة. الأول قوى استراتيجيا. الثانى ضعيف بنيويا. هذا البلد الصغير فى المساحة هو خط التماس الإقليمى وربما العالمى. وبحسب المقولة الشهيرة «يمكن الابتعاد عن الاستراتيجيا ولكن لا يمكن للاستراتيجيا الابتعاد عنك». يبقى لبنان الجغرافيا استراتيجيا ودسما.
إنها عبقرية الجغرافيا اللبنانية ـ البلد من جهة وكارثية إدارة لبنان الدولة من جهة ثانية. يطرح ذلك سؤالا لا مفر منه: أى خارج سيكون قادرا على امتلاك النفوذ والحضور والدور والإدارة فى هذه الجغرافيا اللبنانية؟
•••
من يقرأ تاريخ لبنان السياسى يجد أن التدخل الخارجى على أنواعه (عثمانى، فرنسى، سورى، مصرى، إسرائيلى، إيرانى وغيره) هو علة وجود لبنان لا بل هو عنصر تأسيسى. لهذا التدخل نشأة يمكن تتبعها منذ العهد الفينيقى قبل ثلاثة آلاف سنة. ما أقصده أنه لا يمكن شرعنة التدخل الخارجى فى لبنان بقدر ما لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. هذا التدخل هو فى جينات تركيبة لبنان الدستورية والجغرافية والطائفية والتاريخية. التدخل الخارجى عنصر أصيل فى كل شؤون الحياة اللبنانية. لا علاقة له بطائفة أو منطقة أو حزب أو زعامة.
من هذا المنظور، ثمة مقاربة قوامها حتمية إدارة التدخل الخارجى وليس محاربته. قد تكون الفكرة صادمة للبنانيين، وأنا منهم باعتباره بلدى الثانى، لكن علينا تقبلها كما نتقبل حقيقة أن هناك قضايا كالفساد والبطالة ومؤشرات النمو والعجز وهى قضايا مقبولة من الناحية النظرية بنسب مئوية معينة وكذلك الحال مع التدخل الخارجى فى لبنان. ليس مهما إن كان لدى لبنان دولة قوية. المهم هو دوره على الخريطة.
من هذه الزاوية يبدأ كل حديث عن مشروع إنقاذى للبنان. أى كلام آخر عن الوضع اللبنانى لا يبدأ من هذه الزاوية يكون عبارة عن محاولة تضليلية مضجرة. انتظار إشارة الإنقاذ من الداخل أشبه بتحرى هلال شهر شوال (انتهاء الصيام فى شهر رمضان.. وإعلان عيد الفطر) بالنظر إلى الأرض وليس إلى الفضاء.
هنا نصل إلى صلب الموضوع: من سيتولى إدارة لبنان فى زمن التسويات الكبرى الآتية؟ هل هى الولايات المتحدة التى لا تريد أن تسمع بلبنان أم إيران التى صارت تعتبر بيروت مثل طهران أم السعودية التى تعتبر بيروت مثل صنعاء أم روسيا التى رسمت قواعد اشتباك فى سوريا ركيزتها أن لبنان جزء لا يتجزأ من الأمن القومى الروسى (قاعدة حميميم تقع على بعد عشرات الكيلومترات من حدود لبنان) أم سوريا التى تتحين الفرصة لإعادة إمساك الملف اللبنانى من بوابته الأمنية الشمالية، كما يروج الكثيرون فى هذه الأيام؟
حتما سيكون هناك أكثر من لاعب إقليمى ودولى. أصبح ضروريا وجود ضابط إيقاع يحفظ مصالح الجميع ويدير توازنات الداخل اللبنانى. لا بد من دمشق مهما طال صيام اللبنانيين.