مين فينا اللى معتاد إجرام؟ - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مين فينا اللى معتاد إجرام؟

نشر فى : الأحد 21 مارس 2010 - 10:17 ص | آخر تحديث : الأحد 21 مارس 2010 - 10:17 ص

 كتب أحمد شوقى فى واحدة من قصائده: إذا الثقة اضمحلت بين قوم.. تمزقت الروابط والصلات. وأرى أن الثقة هذه الأيام لم تكتف بحالة الاضمحلال التى تحدث عنها شوقى ولكن تقطعت أواصرها فصرنا كما وصفنا لينين الرملى فى مسرحيته «بالعربى الفصيح» نتصافح وكل يمسك بخنجره وراء ظهره، وأصبحت الحكومة تعاملنا كمعتادى إجرام إلى أن يثبت العكس. هذا التردى الذى آلت إليه «الثقة» فى مصر هو أحد أهم أسباب حالة التأخر الاقتصادي والاجتماعى الذى نعيشه، وهو ولاشك انعكاس لحالة التردى السياسى العام.

لم أستمع إلى واحد من متخصصى الحديث عن حقوق الإنسان يتناول العلاقة بين حقى الإنسانى وبين انعدام الثقة التى تعاملنى به الدولة. فما أقوله كذب وعلى أن أخرج ما يثبت أننى إنسان وحى يرزق ورجل وأسكن فى هذه القاهرة الرائعة التعسة. أشعر بامتهان حقيقى لإنسانيتى والجميع متواطئ على الشك والريبة.

ما بالكم لو منح فجأة أحدهم هذه الثقة الغالية فى إنسان مصرى. ما الذى يمكن أن يحدث لهذا المصرى إذا تم الوثوق فيه دون مقدمات وتم التعامل معه باعتباره غير معتاد «تجرمة» كما كان ينطقها عبدالفتاح القصرى؟ يمكن وصف الحالة النفسية والوجدانية لهذا المصرى بكلمة واحدة عامية وهى أن حاله سوف يكون «مبرجلا». هذا الوصف كان ينطبق تماما على صديقى نبيل وهو فنان تشكيلى شرب من ماء الإهانات المصرية اليومية لآدميته مثلنا جميعا. يسير كما نسير ونحن نتلفت متسائلين من أين سوف تأتى الضربة التالية لتدهس جزءا جديدا من إنسانيتنا؟

حكاية «برجلة» نبيل بدأت بعد إنشائه موقعا الكترونيا يضم لوحاته التشكيلية، وقد وضع لكل لوحة رقما وسعرا للتعريف بأعماله. فوجئ المسكين منذ أيام برسالة إلكترونية تطلب منه شراء ثلاث لوحات من أعماله المعروضة فى فضائه الالكترونى. لم يعرف من الاسم إذا كان رجلا أم امرأة ولم يعرف كذلك جنسية الراسل ولكن كانت اللغة المستخدمة هى اللغة الانجليزية. رد نبيل بمجرد وصول الرسالة والشك يسيطر على انفعالاته تجاه هذا الغريب قائلا، أن عليه أن يدفع كل المبلغ مقدما قبل أن يسلم له أو لها اللوحات. رد نبيل بدا له منطقيا تماما فهو لا يمكنه أن يثق فى أحد كما أنه شخصيا لم يثق فيه أحد. فلو سلم اللوحات فى مقابل نسبة من الثمن، فلن يستطيع أبدا الحصول على المبلغ المتبقى. لم يأت الرد فى نفس اليوم ولا فى اليوم التالى.

ولكن بعد مرور ثلاثة أيام تسلم الرد فى سطر واحد: رجاء حجز الثلاث لوحات وإرسال حسابك البنكى وسوف أقوم بتحويل المبلغ المطلوب. أرسل من فوره الرد برقم حسابه وأكد له أو لها أنه سوف يحجز اللوحات، وهو فى قرارة نفسه يقول إن البائعين ليسوا على الأبواب يطرقونها. انتظر أكثر من يوم ولم يأته رد، وقد أصبح الفضول ينهشه. مرت الأيام دون جديد، وتأكد ظنه أنه صديق يداعبه أو يلاعبه. وفى يوم اعتبره يوما فارقا فى حياته وصلته رسالة من سطر واحد كالعادة: تم تحويل المبلغ اليوم وسوف أوافيك لاحقا بالعنوان الذى سوف ترسل إليه اللوحات. لم يصدق فى البداية. ومن فرط انفعاله ذهب إلى البنك فى اليوم ذاته رغم علمه أن التحويل يصل بعد عدة أيام، وهناك أبلغ موظف البنك بكل فخر أنه سوف يتلقى تحويلا بالقيمة الفلانية. وبدأ يتابع الموظف يوميا.. ولكن المبلغ لم يصل.

ضحك نبيل على سذاجته وعلى طفولته التى صاحبته حتى بعد تخطيه سن الخمسين. فكيف صدق أن يرسل إليه شخص لا يعرفه ولا يعرف عمله هذا المبلغ الكبير؟ كيف يثق فيه واحد من البشر وهو قد فقد ثقته فى البشرية كما فقد ثقته فى الإنسان؟ ولكنه رغم عدم تصديقه هذا اتصل بالموظف فى اليوم التالى الذى أعلمه بوصول المبلغ. جرى إلى البنك وتسلم المبلغ غير مصدق. خرج من البنك وهو يضحك من فرط السعادة أن هناك شخصا فى العالم وثق فيه واعتبره إنسانا وليس مجرما وكاذبا ويستحق التعذيب فى أقسام الشرطة.

التقيته فى نفس اليوم. كان حاله «مبرجل».. لا يعرف ماذا يفعل؟ هل يبدأ صفحة جديدة فى حياته، يمنح الجميع ثقته وينتظر أن يثق فيه الجميع؟ يضحك متسائلا تارة كيف أرسل هذا الرجل أو أرسلت هذه المرأة إليه هذا المبلغ؟ وتارة أخرى يؤكد أنه من الطبيعى أن يثق فيه أى إنسان فهو رجل محترم وفنان. تركته فى وقت متأخر وهو فى هذه الحالة من «البرجلة»، وإذ به يتصل بى بعد ساعتين من قسم الشرطة. فقد تم القبض عليه فى وقت متأخر من الليل «تحرى» أثناء عودته إلى منزله الكائن فى حى شعبى، لأنه نسى بطاقته الشخصية، ولم يصدق الضابط أنه إنسان، وأنه حى يرزق، وأنه فنان تشكيلى، ويقيم فى هذه القاهرة الرائعة التعسة ونسى بكل بساطة محفظته.

خالد الخميسي  كاتب مصري