الحب في الإسكندرية - كارولين كامل - بوابة الشروق
السبت 10 مايو 2025 10:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الحب في الإسكندرية

نشر فى : الإثنين 26 يونيو 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : الإثنين 26 يونيو 2023 - 7:45 م

«أن نحب إنسانا.. لا يعنى فقط أن نفعل من أجله شيئا.. بل أن نساعده على أن يفعل ذلك الشىء بنفسه.. ومرافقته فى سبيل اكتشافه لمواهبه وقدراته حتى يصبح مسئولا عن ذاته.. ويدرك معنى الحياة»، الأب چان فانييه مؤسس «الأرش»، بترحاب مطبوع على ورقة ملصقة بإطار خيش منسوج يدويا استقبلتنى غرفتى فى بيت «الأرش» السكندرى خلال رحلة عمل قصيرة قضيت خلالها أيامى فى هذا المكان الطيب.
الأرش أو «موج الحب» هى جماعة عالمية معنية برعاية وتطوير حياة أشقائنا الصغار أصحاب الإعاقة الذهنية، تأسست عام ١٩٦٤ فى فرنسا، وانتشرت فيما بعد فى نحو ٣٨ دولة، وتضم ١٥٦ جماعة و٢٨ مشروعا حول العالم.
تأسست الحركة فى الإسكندرية عام ٢٠١٥ تحت رعاية الجيزويت، وتنتمى للأرش العالمى، وتقدم خدماتها لكل الشعب المصرى دون تمييز، فالهوية التى تجمع أعضاءها هى الحب للإنسان سواء كان معاقا ذهنيا أم لا.
تختص الحركة بالعمل مع الشباب المعاقين ذهنيا بداية من عمر الثمانية العشرة بغرض تطوير مهاراتهم المهنية فى الصناعات اليدوية، مثل صناعة الشموع والنسيج وأشغال الإبرة، ويتلقون أجرا نظير بيع هذه المنتجات، بالإضافة إلى تنمية مهاراتهم فى التعامل مع هذا الأجر؛ التعامل مع النقود والتعرف على غرضها واستخدامها والحفاظ عليها، حتى يكون كل منهم مستقلا يُدرك ما يرغب فعله دون أن يُملى عليه أحد.
أشقائى الصغار، أدعوهم، لأنى مؤمنة فى أعماقى بعلاقة الأخوة غير المشروطة التى تجمعنى بهم، فهم بالنسبة إلىّ بشريون جُردت مداركهم من القدرات الذهنية المسئولة عن التخطيط لارتكاب الجرائم، وتخلو نفوسهم من الرغبة فى جرح الآخرين عن عمد، وهم بذلك نسخة بشرية تتفوق علينا نحن فى النبل والبراءة.
البيت حيث مكثت أيامى جزءا من خدمة تقدمها جماعة الأرش، ويقوم على أغلب خدماتها الأشقاء الصغار، بداية من استقبالى على الباب الخارجى، وصولا إلى غرفتى وتنظيفها وتنظيمها، والكافتيريا مشروباتها البسيطة يعدها لى أحدهم ويقدمها لى آخر ويتلقى منى المقابل ويُعيد لى الباقى.
كانت أيامى طيبة بوجودهم حولى فى المكان بكل ما لديهم من طاقة حب وصدق يمكن أن يتلقاها كائن من كان، فلست وحدى من شملوها بالرعاية، بل والأشجار وصنوف الزهور المختلفة فى حديقة الأرش، وعدد من القطط الوليدة يطعمونها التونة ويسقونها اللبن، الخير فى كل خطوة ولمسة يد منهم.
• • •
كيف نحب إنسانا مختلفا، ومختلف هنا تعنى لا يبادلنا الحب كما نريده، بل يعطينا مما يكمن فى دواخله، يتزامن وجودى فى الإسكندرية بعد مرور أيام قليلة من وفاة الأب هنرى بولاد اليسوعى عن عمر الثانية والتسعين، عضو فعال فى جمعية الكاريتاس الكاثوليكية الخيرية فى مصر وفلسطين، وهى جمعية دولية تعمل فى مجال التنمية والخدمة الاجتماعية والمساعدات الإنسانيّة.
التقيت الأب اليسوعى هنرى بولاد منذ سنوات فى جيزويت الإسكندرية، وأول مرة أراه على مائدة الطعام حيث كنت من المحظوظين الذين يجدون لهم ملاذا فى الإسكندرية داخل جدران بيت الجيزويت (رهبنة الآباء اليسوعيين) فى منطقة كليوباترا، تناولت الطعام مع هؤلاء البشر ممن نذروا حياتهم للعطاء والبذل، على مائدة واحدة أستمتع برفقتهم ومعرفتهم وحبهم للجميع.
بعد الغداء وجدته يسألنى «قولى لى يا كارولين إيه الفرق بين الحب والمحبة؟»، كان السؤال مباغتا، وتصورت حينها أنه اختبار فى اللغة العربية، ضحكت ولكنه اكتفى بالابتسامة، فسألنى مباشرة لماذا استخدم بولس الرسول لفظة المحبة وليس الحب فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح الثالث عشر المعروف بإصحاح المحبة، حيث يقول:
«وإن كانت لى نبوة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لى كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لى محبة، فلست شيئا. وإن أطعمت كل أموالى، وإن سلمت جسدى حتى أحترق، ولكن ليس لى محبة، فلا أنتفع شيئا. المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء. ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق. وتحتمل كل شىء، وتصدق كل شىء، وترجو كل شىء، وتصبر على كل شىء. المحبة لا تسقط أبدا. أما الآن فيثبت: الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة».
لم أعرف بما أجاوبه، فشرح لى أن الحب ممارسة ضمن المشاعر التى يحملها الإنسان بداخله مثل الكراهية والغضب والشفقة والتحامل، وطبيعة المشاعر متغيرة بل ومرتبطة بالمقابل أيضا الذى يتلقاه الإنسان، ولكن المحبة هى المظلة التى يندرج تحتها الحب والشفقة والرجاء والستر والعطاء وغيرها من المشاعر الخيرة التى مهما تغيرت الأمزجة وعلاقتنا بالبشر، لا تتغير المظلة.
وكرر على مسامعى ضرورة أن نتذكر دوما أن الحب رغبة مُلحة لدى كل إنسان، يبحث عن إشباعها، فنحن محبوبون إذن نحن موجودون، نحب الناس ولكن نتعامل معهم بالمحبة التى تصهر بداخلها حتى مشاعرنا السلبية.
• • •
لا يحبنا البحر!
أجلس على الكورنيش فى الإسكندرية، أتشمم رائحة السمك التى علقت فى أصابعى، بعد أن التهمت طبق من البساريا فى أحد المطاعم القديمة، أبتسم، وأتطلع إلى البحر، أكاد أجزم أن أمواجه تخاطرنى ذهنيا، سؤال يدور فى عقلى، والموج يكرر الرد ذاته.
تشبه الأمواج المتتابعة، لعبتنا مع بتلات الزهور «بيحبنى مش بيحبنى»، ونترك للبتلة الأخيرة تحديد مصيرنا، لا تعجبنا إجابتها القاطعة، نفصص أخرى، حتى نحصل على إجابة نعلم يقينا أنها غير حقيقية، ولكنها ساحرة.
رومانسية مؤجلة ومُرهقة، لما احتجت إليه من وقت حتى أصل إلى بقعة حرة من الكورنيش أرى منها البحر، وإذا رأيته أخيرا يلفت انتباهى أحد أن الشاطئ ضمن الكافتيريا، وجدتنى أسأل البحر المفتوح، لماذا لا يحباننا بحرانا الأبيض والأحمر، بعيدا المنال، إما لبعدهما وتكاليف الوصول إلى أحدهما، أو لأن الآخر يفصلنا عنه أسوار عالية غالية، إن كان البحر نبع المحبة، لماذا لا يحبنا نحن بنات وأبناء الأرض العريقة ووليفته المحبوبة؟

كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات