إنصافا لمصر الملكية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الأربعاء 17 أبريل 2024 12:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إنصافا لمصر الملكية

نشر فى : الإثنين 30 يوليه 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الإثنين 30 يوليه 2018 - 9:10 م

بداية ليس هذا المقال حلقة من مسلسل المعركة السنوية بين جمهورى الناصرية والملكية. من السذاجة المفرطة أن أرغب فى حسم جدال تاريخى تليد فى بضعة أسطر من مقال، بل ومن استبدادك بالرأى أن تمليه على معارضيك كرها، وتحسبهم فى ضلال مبين حتى يقروا لك بانتصار حجتك وفساد رأيهم الذى يرقى أحيانا إلى مرتبة المعتقد!
لكن مصر التى نحبها ونسعى جميعا على اختلاف مذاهبنا إلى نصرتها ولو فى ميادين الرياضة والفنون، مصر التى تشتعل بهجة بحصول أحد أبنائها على ميدالية أولمبية أو شهادة تقدير دولية.. تستحق منا ألا ننسب لتاريخها ما ليس فيه من نقائص، وأن نذكر للآباء والأجداد فضلا لغرسهم، وتقديرا لإخلاصهم وتفانيهم فى صناعتهم. فبلادنا عرفت منذ نهضتها الحديثة على يد مؤسس الدولة العلوية وكثير من ورثة عرشه العديد من الانتصارات فى مختلف الميادين العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدستورية والفنية والرياضية.. لا يجرمنكم شنآن بعضهم على أن تجحدوا ما حققه «المصريون» فى عهدهم.. فالجندى المصرى والذى كان نواة الجيش الذى أسسه سليمان باشا الفرنساوى حارب خارج الحدود محققا الانتصارات والفتوحات، وما تزال حروب المورة شاهدة على تفوق العسكرية المصرية بقيادة إبراهيم باشا، وما تزال حروب الوهابية شاهدة على انتصار الجندى المصرى الحديث بقيادة طوسون وإبراهيم على أكبر حركة مناهضة للتقدم والحضارة بل وللإسلام السمح الحنيف.. لا ينقص من الإنجاز دماء أعجمية تسيل فى عروق القادة ما أثبتوا حبهم وانتماءهم لمصر كأحسن ما يكون الانتماء والفداء، فى سياق تاريخى لم يعرف الدولة القومية بعد، ولم يتشدد فى تحديد جنسية وعرق القادة والحكام، ولم تغب عن الوعى العام فكرة الخلافة السائدة... بل إن أمما سادت العالم وما زالت جاءت مزيجا من أعراق وشعوب فترى الولايات المتحدة الأمريكية نشأت وكأنها منتخب العالم! ولا موضع لذكر ملوك أوروبيين حكموا ــ بغير احتلال ــ بلادا لم يولدوا فيها بل ربما هى فى موقع المنافسة مع موطنهم الأصلى.. نذكر لمصر فى حكم الأسرة العلوية أنها كانت منارة العلم والفن والأدب والرياضة فى محيطها الإقليمى.. هوليود الشرق التى كانت تواكب الغرب فى صناعة السينما وثانى دولة تدخلها السكك الحديدية بعد بريطانيا العظمى، ومنها خرج أول فريق يحصل على بطولة «أوروبا» فى لعبة كرة السلة! وخضر التونى أهم رباع فى العالم والذى طلب هتلر مصافحته فى أولمبياد برلين! وعلى باشا ومصطفى مشرفة العالم الفذ، وأدباء عصر النهضة الكبار، وزعماء الحركة الليبرالية التالية على صدور دستور ١٩٢٣ الذى يعد واحدا من أعظم المنتجات الدستورية فى تاريخ الأمم.. لا ينقص من روعة تلك الأمجاد والأرقام القياسية أنها تحققت تحت وصاية أو حماية أو حتى احتلال غربى، لأن المصريين كانوا أقوى من الاحتلال وأرسخ فى أرضهم من كل الغزاة على مختلف العصور، ولأن العالم كله تقريبا كان محتلا أو واقعا تحت سيطرة الاحتلال بصورة من الصور، ولكل عصر نمط فى الهيمنة والاحتلال، وغدا يسطر التاريخ أنماطا نعايشها دون دراية. وترى أحدهم ينتصر لمذهب سياسى فيمتهن الوطن ويجحد استقلاله الذى جاهد الأجداد لانتزاعه مبكرا عام ١٩٢٢ فيزعم أن التحرر تأخر لمنتصف الخمسينيات! فقط لكون مظهر واحد من مظاهر التدخل البريطانى كان قائما فى ظل ظروف قاهرة لحرب عالمية!
***
مصر التى عرفت الجامعة قبل كثير من دول العالم وشيدتها بتبرعات الأهالى ومجوهرات الأميرات وتخرج فيها العلماء والأدباء والحقوقيون.. لم يمنع تفاوت الدخول من تميز نوابغها من أشد الناس فقرا وأصعبهم ظروفا وطه حسين عميد الأدب العربى وصاحب رواية «المعذبون فى الأرض» خير دليل.. تلك الجامعة بمصروفاتها المانعة لعموم الفقراء لم تكن أبدا مانعة لانتخاب النوابغ فطرة الله التى لولاها ما انتخبت خير النطاف وأقواها لتحمل فيها النساء وتستمر بها دورة الحياة.. تخيل معى ازدحام الأرحام بكل النطاف التى تستقبلها، القوى منها والضعيف، أو تخيل أن الضعيف يطرد القوى بفعل الكثرة والكثافة.. إنها إذن نهاية الحياة.
الحكمة من الحصول على فرص متكافئة فى التعليم لا تعنى أبدا عدم وجود آلية لفرز المتفوقين الذين يستحقون الاستمرار فى التعليم الجامعى حتى وإن أتيحت فرصة لمن هم أقل تفوقا نظير التمويل المناسب للعملية التعليمية وما تزال الجامعات الأعلى تصنيفا فى العالم تتبع تلك الآلية.
مصر فى أربعينيات القرن الماضى كانت بها بورصة الإسكندرية واحدة من أنشط خمس بورصات فى العالم، كانت عقود المشتقات يتم تداولها منذ عام ١٨٧١ وكانت دائنة للتاج البريطانى المنهك من الحرب، كانت عملتها أقوى من الجنيه الذهب وأعلى منه بثلاثة قروش، ميزان التجارة كان يحقق فائضا مستمرا بفعل تصدير محصول واحد هو القطن وكثير من دول النفط يقوم اقتصادها حتى اليوم على تصدير المنتج الواحد، لكن مصر عملت على تصنيعه بحلجه ونسجه ليكتسب قيمة مضافة قبل التصدير.. كان ذلك سابقا على يوليو ٥٢ بل وكان التطور فى صناعات السكر والزجاج والبلور والنحاس والكثير من الصناعات التحويلية سابقا على هذا التاريخ والشاهد مصانع ياسين وعبود والنحاس... وغيرها.
الموازنة العامة كانت تحقق فائضا ما يعنى أن الادخار العائلة والحكومى أيضا كان يسمح بنمو الاستثمارات ناهيك عن جذب الاستثمارات الأجنبية فى مختلف القطاعات.
العمالة الأجنبية الوافدة من دول «غربية» كانت تحترف مهنا بسيطة فى بلادنا، وكانت متاجر الإسكندرية تغص بعمال من الجاليات الإيطالية واليونانية. وبالطبع كانت كثير من الوظائف الراقية حكرا على البريطانيين والأتراك قبل أن تبدأ حركة التمصير التى وردت تفاصيلها فى مذكرات سعد باشا زغلول.
***
المؤشرات الاقتصادية التى مازلنا نرصدها اليوم والدالة على الاستقرار المالى والاقتصادى لا تكذب ولم يتم استنطاقها عنوة للدلالة على تفوق الاقتصاد المصرى فى عهد غابر. لكنها لا تعنى غياب الفقر والفقر المدقع فى ريف مصر. سوء نماذج توزيع عائدات النمو هو مرض مزمن تعانى منه الكثير من الاقتصادات حتى يومنا هذا ومنها مصر والهند وكثير من الدول النامية والناشئة.. بل إن ظاهرة الفقراء المشردين تمتلئ بها شوارع نيويورك وكثير من ولايات الدولة العظمى.. هذا لم ينقص من شهادات تصنيف اقتصادات بعينها باعتبارها تحقق نجاحا على المستوى الكلى فى مجالات النمو والتشغيل والاستثمار والتجارة والصناعة والسياحة والخدمات.. كانت المواصلات والاتصالات والأشغال العمومية والخدمات الحكومية فى مختلف المصالح تقدم بجودة عالية فى مصر الملكية لأن نماذج الإدارة الحديثة وتعدد طبقات وضوابط الرقابة وجودة التعليم والتأهيل والتدريب كانت تؤتى ثمارها بشكل جعل شوارع مصر ومظاهر الرفاهية فى مدنها تقارن بشوارع باريس ودول العالم الأول.
مصر فى عهد الأسرة العلوية شقت الترع وأقامت السدود ونظمت الرى واتسعت رقعتها الزراعية بصورة نحاول استعادتها اليوم! قناة السويس أحد أهم روافد الاقتصاد القومى حتى يومنا هذا شقها المصريون فى عهد أبناء محمد على ولا ينقص من الإنجاز اختلافنا مع بدائل التمويل أو أدوات العمل لأن الإنجاز احتسب لمصر.
***
بالطبع أنجز المصريون الكثير بعد سقوط الملكية، خاصة فى مجالات الصناعات الثقيلة وتخفيض حدة التفاوت والطبقية ومقاومة الكثير من صور التدخل الأجنبى.. وربما كان الأوفق لمصر الإنصاف فى تشخيص أبرز عيوب الحكم الملكى الدستورى بعيدا عن التكهنات والرجم بالغيب بكون الملك كان يعد لانقلاب أبيض! كان تدخل السراى فى الحكم والعبث بالدستور وإهدار الانتخابات وكثير من الأزمات العائلية داخل القصر عيوبا يمكن للنظام الحزبى فى مصر وللمجتمع المصرى بتفاعلاته وحيويته مقاومتها والتغلب عليها، دونما الحاجة إلى هدم المنظومة كلها بمزاياها وعيوبها.. لو أمكن لمصر أن تنطلق فى خط مستقيم، لتجاوز عمر التنمية فيها أعمار البشر والأنظمة متفرقين لأن عمرها هو مجموع ككل تلك الأعمار.
مصر فى عهد الملكية أو فى عهد آخر هى أكبر من النظم والدساتير، هى قوة كبيرة كامنة فى ضمير شعبها الأبى هى حبل متصل من النجاح والتعثر لا ننكره ولا نجحده لتحيز أو لكراهة حاكم.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات