سبعمائة دولار - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 8:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سبعمائة دولار

نشر فى : الأحد 31 أكتوبر 2010 - 10:22 ص | آخر تحديث : الأحد 31 أكتوبر 2010 - 10:22 ص

 سافر وهو فى الثانية والعشرين من العمر للبحث عن الرزق فى العراق. كان قد عمل قبل سفره فى محل والده خياط جلابيب. ولأن محل والده كان فى الأصل يحقق بلا فخر خسائر شهرية، انتقل إلى العمل لدى أحد الخياطين الذين يمتلكون شقة فاخرة فى منطقة وسط البلد. ولكن كان حاله ليس أفضل كثيرا من حال والده. كان حظه العثر أن الحرفة الوحيدة التى تعلمها تموت ببطء. أدرك حينها استحالة الحياة فى قاهرته فسافر عام 1987 إلى بغداد على أمل أن يكون حال المهنة هناك أفضل من هنا. وبعد عامين من الكد والعرق والانتصارات والكوارث اضطر للعودة فى عام ١٩٩٠ مع عشرات الآلاف من المصريين أثناء مغامرة صدام الكويتية. نصحه البعض بعدم السفر بتحويشة الغربة خوفا من قراصنة الطريق. فتوجه إلى البنك المركزى العراقى. سألوه إذا كان يمتلك حسابا بنكيا فأجاب بالنفى. فقاموا بتحويلة مالية بقيمة سبعمائة دولار إلى بنك الإسكندرية فرع الأوبرا باعتباره أقرب فرع لمسكنه وطلبوا منه التوجه بجواز سفره وورقة التحويل المصرفى إلى فرع البنك للحصول على ماله. وبمجرد عودته عام 1990 توجه إلى فرع البنك ولكنهم أكدوا له أن التحويل المصرفى لم يصل بعد. التقيت به منذ يومين فسألنى من فوره: هل هناك حساب بنكى اسمه حساب تحويلة؟ فأجبته أننى لا أعرف. فأخرج لى جواز سفره وورقة مهترئة تحمل من الضمادات أكثر مما تحمل من حبر. حاولت أن أقرأ ما بها فلم أفلح. قال لى إن والده رحمه الله هو الذى ضمد الورقة بيديه المهتزتين من كثرة لضم الإبرة. حاول والده قبل أن يموت أن يقوم مع خطاب التحويل المصرفى بمعجزته الدائمة فى تحويل قماش مهترئ إلى جلابية شديدة البهاء كى يستطيع موظف البنك أن يفهم ما حوته من أكواد وأسرار نعجز نحن البشر العاديين عن فهمها. ولكن كانت الإجابة تأتى دائما من موظفى بنك الإسكندرية وعبر أكثر من عقدين من الزمان: لم تصل الحوالة حتى الآن. سألنى النصيحة فقلت له احكى:

التقيت برجل وحكيت له كالعادة قصتى فى الجرى وراء تحويشة الغربة بلا فائدة. حكيت له كيف حاول والدى وعمى وأخوالى وأخواتى مساعدتى فى استرداد مالى فلم يفلحوا. رغم ذلك لم تفتر همتى ولم تنقطع زياراتى للبنك. مات الموظف الذى كنت أذهب إليه وخرج الثانى إلى المعاش ومنذ هذا التاريخ لم أستطع الارتباط بعلاقة مع موظف محدد. انتظر الرجل أن أنتهى من حكايتى ثم قال لى إنه موظف فى بنك الإسكندرية وفى نفس الفرع وأنه سوف يحاول مساعدتى. وأخذ منى اسمى الرباعى ورقم التحويل ورقم جواز سفرى ورقم هاتفى. اتصل بى بعد يومين قائلا إنه وجد التحويل وأن القيمة المالية المستحقة لى الآن وبعد عشرين عاما من تراكم الفوائد أصبحت خمسة عشر ألف جنيه. وطلب لقائى. ذهبت إلى البنك واتصلت به فنزل لى مشكورا فى الشارع أمام البنك ومعه أوراق بنكية طلب منى التوقيع عليها لأننى يجب أن أفتح حسابا بنكيا كى يتم تحويل الخمسة عشر ألف جنيه إلى هذا الحساب. وأخذ منى صور جواز السفر والحوالة ومبلغ خمسين جنيها. ومنذ حينها ورغم مرور ثلاثة أسابيع لم أفلح فى لقائه لأنه فى كل مرة يحكى لى قصة مختلفة تبرر التأخير كان آخرها أن البنك المركزى المصرى يجب أن يعتمد هذا التحويل. لكن الغريب أنه رفض إعطائى رقم حسابى البنكى وقال لى إنه فتح لى حساب تحويلة. نصحنى البعض بالتوجه إلى أى فرع من فروع بنك الإسكندرية للسؤال عن رقم حسابى. وبالبحث لم يجدوا لى حسابا. السؤال هو: هل من المعقول أن يكون كل ذلك ليحصل هذا الرجل على مبلغ خمسين جنيها؟ أم أنه يحاول الحصول على تحويشة الغربة لنفسه؟ أم أنه يحاول المساعدة ولكنه لم يفلح؟

لم أستطع الإجابة ولكننى سألته كم شخصا يعرف لديه نفس المشكلة. فرفع ذراعيه لأعلى ورد: ياما.

ملايين من المصريين عادوا من العراق فى الفترة الممتدة من عام ١٩٩٠ إلى عام ٢٠٠٣، ما تلقاه الأغلبية المطلقة منهم من التعليم القليل. تم نهب مدخراتهم مستغلين جهلهم بلغة البنوك. وكان سؤاله الأخير قبل أن نفترق:

هل من الممكن أن تكون الحكومة المصرية قد نهبت كل هذه التحويلات من الدولارات؟ تلفظنا لنعمل فى الخارج ثم تحصل بكل بساطة على كدنا. هل هذه هى سخرة القرن الجديد؟.

خالد الخميسي  كاتب مصري