الشأن الدوائى الوطنى ــ مسارات الخروج من الفوضى - محمد رءوف حامد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الشأن الدوائى الوطنى ــ مسارات الخروج من الفوضى

نشر فى : الأحد 1 يناير 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الأحد 1 يناير 2017 - 9:15 م
علاج الشأن الدوائى المصرى من الفوضى التى تعتريه يتطلب إخراجه من وضعية «كش ملك»، والتى وصل إليها نتيجة تراكم مزمن للتدهورات (منذ 1974)، ويتطلب تجنيبه لخطر إهدار الوقت واستنزاف الأموال بادعاء إنشاء ما هو موجود بالفعل ومجرد إعطائه مسمى مختلف (مسمى هيئة الدواء المصرية). ذلك إضافة إلى تجنب تحرير الدواء من التسعير.

بمعنى آخر، لا يتحمل علاج الشأن الدوائى المصرى المزيد مما لا لزوم له من مقاربات غير موضوعية، لا تستند إلى فهم كلى منظومى و/أو تكون مدفوعة بمصالح أو تحيزات استحواذية خاصة، حيث العلاج من الفوضى لا يمكن أن ينجز من خلال «فوضى فى العلاج»، وإلا انتقل الشأن الدوائى الوطنى من وضع سيئ إلى ما هو أسوأ.

هذا، ويجدر جذب الانتباه إلى أن الفوضى تتضمن أربعة أبعاد مترابطة، يحتاج العلاج إلى تناولها معا وبعناية.

البعدان الأول والثانى يتمثلان فى الأزمة الطارئة وفى التدهورات المزمنة. وأما الثالث والرابع فيتمثلان فى السياسة الدوائية بخصوص توفير الأدوية للمواطنين، وتلك الخاصة بالصناعة الدوائية. عليه تتطلب المواجهة إجراءين: أولهما يكون فى سياق مخصص (أى ad hoc) لمواجهة الأزمة الطارئة. هذا الإجراء يحتاج أن يحدث بالتزامن (أو بالتوافق) مع بدء الإجراء الثانى، والذى يختص بوضع الشأن الدوائى المصرى على مسار «سياسى» سليم.

أولا ــ مواجهة الأزمة الطارئة:

تحتاج هذه المواجهة إلى تعامل سياسى علمى يقوم على خطاب تفاعلى تشاركى جماعى، وليس خطابات أوامر أو تهديدات من أى مستوى قيادى (حكومى أو غير حكومى).

من خصائص هذا الخطاب أنه يتعامل بشكل كلى (أو شامل) مع جميع العوامل المؤثرة، وأنه يهدف إلى استيعاب ومشاركة كل الشركاء الممكنين. حزمة الشركاء يمكن أن تضم: الحكومة (وزارات الصحة والمالية والتضامن والبنك المركزى) ــ اتحاد الصناعات ــ الغرفة التجارية ــ نقابتى الأطباء والصيادلة ــ الموردين ــ الموزعين ــ العمل الأهلى ــ مفكرين دوائيين. الواجب Homework المنتظر هنا يتضمن تحديد الاحتياجات الدوائية الملحة والماديات المطلوبة، وفقا لمدى زمنى قصير ومحدد.

هذا وغنى عن القول أن الحل السياسى العلمى للظاهرة الطارئة (أو الحادة) يمكن (بل ولابد) أن يستفيد من تقنيات بحوث العمليات Operations research، والتى تكون عظيمة الفائدة فى حل المشكلات التى تتصف بمحدودية الموارد (أموال أو جهد أو زمن...إلخ).

النجاح فى هذه المواجهة يكتمل من خلال لا مركزية رشيدة فى التطبيق على مستوى المحافظات والمدن. ولتجنب الفوضى أثناء تطبيق الحل السياسى العلمى لابد من الإعلام عن أهداف الحل الذى يتم التوصل إليه، وطريقة تطبيقه، ونقاط القصور فيه، أو بمعنى آخر حدوده The limits.

(ملحوظة: منذ أيام جرى الإعلان عن اتفاق على زيادات فى الأسعار بنسب مختلفة، الأمر الذى لم يجر من خلال مقاربة جماعية Team work، ولم يستند إلى تصنيفات للأدوية طبقا لدرجة الشدة فى نوعية الحاجة المرضية إليها. وكذلك لم يتطرق إلى ميكانيزمات (أو حتى رؤى) لتصحيح الفوضى الجارية بأبعادها المختلفة).

ثانيا ــ وضع الشأن الدوائى المصرى على مسار سياسى سليم:

التحول إلى مسار سليم يحتاج للعمل فى أربعة اتجاهات.

الاتجاه الأول يختص بالتوصل إلى صياغة علمية لسياسة دوائية حقيقية تستهدف إتاحة الدواء لكل من يحتاجه وبالسعر الذى يناسبه.

واقعية السياسة الدوائية ونجاحها يكمنا فى اعتمادها على مؤشرات اقتصادية / اجتماعية تقيس الإمكانات المعيشية للأفراد، وتقوم على حسابات للتباينات الكيفية والكمية لهذه المؤشرات عبر الشرائح الاجتماعية المختلفة، وفى جميع المحافظات.

فى السياسة الدوائية مطلوب الاجتهاد فى تطبيق المفاهيم الخاصة بالتحكم الأمثل فى عدد الأدوية (خاصة بتطبيق مفهوم «الأدوية الأساسية»؛ والتى تتمتع بالفاعلية والمأمونية والسعر المنخفض)، وأيضا تطبيق الوصف الطبى باستخدام الأسماء العلمية للأدوية، مما يقلل من التأثير السلبى لشراسة عمليات الترويج الدوائى.

ذلك بالإضافة إلى تطبيق منهجى لقواعد الاستخدام الرشيد للأدوية، والتى تهدف إلى تجنب تداخلاتها الضارة مع بعضها (أو مع الظروف الخاصة بالمريض مثل العمر والغذاء والأمراض الأخرى...إلخ)، فضلا عن تجنب استخدام أدوية بدون داعٍ.

أيضا، السياسة الدوائية الوطنية لا تكون حقيقية، ولا تنجح إلا بتضمنها لآليات يكون من شأنها توقع المشكلات (مثل نقص الأدوية أو مفاجئات ارتفاع أسعارها)، وإدارة التوصل إلى حلول لها.

هنا تحتاج منظومة السياسة الدوائية إلى علاقات تغذية مرتدة Feedback، وسيناريوهات احتياطية، لاتخاذ قرارات استثنائية عند مواجهة الأزمات والكوارث (مثل الأوبئة أو تغيير سعر العملة...إلخ).

هذا ولابد من إخضاع السياسة الدوائية للتقويم الدورى من خلال دراسات علمية وورش عمل.

الاتجاه الثانى والمكمل للسياسة الدوائية يختص ببناء نظام قومى كفء للرعاية الصحية. فى غيبة هذا النظام تكون السياسة الدوائية أشبه بسفينة صغيرة تحاول الإبحار فى محيط يقاسى من «تسونامى».

الاتجاه الثالث يتمثل فى استنهاض قومى للصناعة الدوائية المصرية.

هذا الاتجاه يتطلب تطوير معايير تقويم هذه الصناعة، وتهيئتها للتقدم من خلال إحداث تحولات استراتيجية فى بيئتها وفى بنيتها وفى علاقاتها المؤسسية. المطلوب أن تؤهل هذه الصناعة للابتكار وللارتقاء فى التسويق وفى البحوث وفى إنشاء التحالفات (والتكتلات) الاستراتيجية التى تحقق ذلك.

الاتجاه الرابع يتمثل فى إنشاء كيان دوائى قومى يختص بإدارة دفة جميع شئون الدواء فى مصر، أى بإدارة السياسة الدوائية والصناعة الدوائية فى آن واحد. فالحاجة إلى هذا الكيان تنبع من الطبيعة العالمية للتغيير فى القرن الحادى والعشرين، والذى يكون ــ فى الأساس ــ بتطوير السياسات والاستراتيجيات، وبالإبداع عند التطبيق، وبحسن المتابعة والترشيد.

إن السياسات التغييرية لابد وأن تستهدف تحويل الأوضاع من واقعها الإستاتيكى النسبى إلى مستقبليات أكثر ديناميكية تكون قادرة على تسريع الوصول إلى تغييرات تكنولوجية علمية جذرية.

فقط هذه التغييرات هى التى تمكن من التوصل إلى منتجات وعمليات إنتاجية وخدمية جديدة ترقى بالسياسة الدوائية وبالصناعة الوطنية.

المسألة إذن ليست أبدا الاستحواذ على أجهزة حكومية موجودة وتمارس مهامها بالفعل ووضع «يافطة» بمسمى جديد عليها، وهى ليست إهدار أموال فى شراء أراضٍ جديدة وتشييد المبانى. أيضا المسألة ليست إخراج الشأن الدوائى من وزارة الصحة ولا إقامة علاقة سلطوية مع رئيس الوزراء...إلخ. الكيان الذى تحتاجه مصر لإدارة دفة جميع الشئون الوطنية للدواء بأوضاعها الجارية والمستقبلية الممكنة (تلك التى ينبغى أن تكون) يمكن أن يطلق عليه «المجلس الأعلى للدواء» أو أية تسمية أخرى إذا ما كانت أكثر مناسبة.

هذا الكيان يكون هو المستوى الوطنى الأعلى بخصوص جميع شئون الدواء؛ سواء ما يكون منها داخل الحكومة (مثل الرقابة والتسجيل والتسعير...إلخ)، أو خارجها (مثل الصناعات الدوائية...إلخ). إنه المسئول عن ربط «الفعل الدوائى الوطنى» بـ«الفكر الدوائى» بأعلى إمكانات الحركة وبأحسن الإيقاعات الممكنة وعلى مختلف الأبعاد الزمنية (قصير ــ متوسط ــ طويل). المهمة الرئيسية لهذا الكيان تتمركز فى صناعة السياسات والاستراتيجيات الوطنية لكل شئون الدواء، وربطها ببعضها ومتابعة تطبيقها وتطويرها.

مهام هذا الكيان (أو المجلس الأعلى للدواء) تتضمن أهدافا مثل:

1ــ الاستيعاب التطبيقى (والتطويرى) للمتغيرات العالمية فى إدارة اقتصاديات الصناعة الدوائية (مثل العملقة، والتحالفات، والتكتلات، وشبكات البحوث، والخصخصة البحثية)، وكذلك فى إدارة سياسات إتاحة الأدوية للمواطنين.

2ــ تنظيم عمليات التوصل إلى السياسات الدوائية على اختلافها (بخصوص إتاحة الدواء أو بخصوص الصناعة).

3ــ رعاية وتوجيه التعاملات بين مختلف الكيانات الحكومة من ناحية، والكيانات الدوائية من ناحية أخرى.

4ــ دراسة وتقييم اقتصاديات الشركات الوطنية للدواء، وذلك بهدف تعظيم إمكانيات التشبيك فى المصالح بينها من أجل الصالح الدوائى الوطنى العام (مثلا من أجل تنمية القدرات البحثية والتسويقية المطورة للصناعة).

5ــ دعم التعامل الرشيد مع الشركات والتحالفات العالمية، والمنظمات الدولية، بهدف اكتساب معارف وتقنيات جديدة.

6ــ رعاية عمليات الاستخدام العلمى (وليس التجارى) لبراءات الاختراع الأجنبية فى تعميق القدرة الوطنية على ممارسة «الهندسة العكسية» للمنتجات والعمليات الدوائية.

7ــ تعظيم التواصل الأفقى مع الموارد المحلية والإقليمية (الصناعات البتروكيماوية والتعدينية ــ النباتات والحيوانات فى البر والبحر....الخ ) .

8ــ دعم وتنظيم التحالف بين الدراسات العليا فى الكليات ومراكز البحوث من ناحية، وسائر الكيانات الدوائية من ناحية أخرى.

9ــ تحفيز الإعارة المتبادلة بين الأكاديميين من ناحية وخبراء شركات الدواء من ناحية أخرى.

10ــ تصحيح معايير تقويم الصناعة الدوائية، وذلك من خلال الاحتكام إلى معايير مثل: القيمة المضافة Added value ــ البراءات ذات المردود التجارى ــ تقديم مواد دوائية جديدة، تقليص نسبة الإنتاج بتراخيص أجنبية ــ تطبيق أحدث عمليات ونظم الجودة...إلخ.

11ــ تنظيم المنافسة المحلية بهدف تكامل وارتقاء المسارات التكنولوجية (المواد الخام ــ التشكيل الصيدلى المتطور ــ التكنولوجيا الحيوية...إلخ)، مع تحفيز التنافسية داخل كل اتجاه.

12ــ التحفيز على التطوير التكنولوجى (بوسائل مثل الضرائب ــ التسعير ــ الجوائز...إلخ).

13ــ تصنيف الصناعة القائمة إلى مستويين، أحدهما خاص بصناعة الأدوية الجنيسة (أى التى زالت عنها براءات الاختراع)، والآخر صناعة تمارس أيضا البحث العلمى التطويرى، مع وضع أدوات تقويم وتحفيز متنوعة لكلا النوعين.

14ــ إدخال إدارة التغيير التكنولوجى Technology change management فى جميع الكيانات الدوائية من شركات ومنشآت بحثية وإدارات حكومية.

وأخيرا يمكن القول ــ من منظور السياسات الوطنية العامة ــ بأنه نظرا لأهمية وحساسية الشأن الدوائى وضخامة منظوميته فإن مصير إدارة الفوضى والترديات التى تعتريه يعد «مرآة» لمدى صحة سياسات التنمية (والتنمية السياسية) فى مصر على مدى العقود الأربعة الماضية وصولا إلى «اللحظة التاريخية الحالية».
محمد رءوف حامد خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق
التعليقات