بين البر والبحر - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 9:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين البر والبحر

نشر فى : السبت 9 ديسمبر 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 9 ديسمبر 2023 - 8:35 م
أهرب إلى معرض الفنان جميل شفيق المقام حاليا بمتحف محمود خليل ليريحنى من هذا الكوكب التعيس. أبدو كبلهاء لا تتكلم سوى قليلا، شاغلها الشاغل أن تستمع لما أخبره به البحر أو النهر طوال حياته وحتى وفاته فى العام 2016، فقد كان يجلس أمام مياههما المسكونة بحشود لا تحصى من الأسماك ليصطاد. عادة كانت هذه بداية انطلاقه إلى فضاء رحب يسكنه الخيال. يستدعى أشياء وأبطالا رافقوه منذ الطفولة ولم يفقدوا سحرهم وعفويتهم. نجدهم فى لوحاته ورسوماته ومنحوتاته التى لا تشبه الوجوه المحيطة بنا والمسيطر عليها الحنق والكآبة، بل على العكس تطل علينا شخوصه بمظهر أسطورى كمن ارتدى سترة ذات أجنحة تحمله طائرا إلى قرية أخرى أو كراقص باليه له عرف طويل على رقبته نكتشف فيما بعد أنه حصان.
• • •
أبطال أعماله لم يتغيروا كثيرا على اختلاف الزمن والوسيط المستخدم لكى يمنحهم حياة أبدية على الورق أو الخشب: بنت جميلة مثل القمر، جنية، سمكة، حصان، عازف أو أكثر، صياد بروح فارس متأمل، لاعب سيرك، امرأة ناضجة تحول جسدها إلى أداة موسيقى شجية تغنى وترقص. أغلبهم مثله لديهم علاقة خاصة مع بحر أمواجه ذات زبد أبيض يضرب صخور الشاطئ دون ملل. والفنان بداخله يراقبه ويراقبهم حتى قبل تخرجه فى الفنون الجميلة فى مطلع الستينيات بكثير، فذلك الطفل الذى ولد فى مدينة طنطا عام 1938 طالما أحب الاستماع إلى حكايات من أتوا مثله للصيد على حافة الترعة، وهم يتحدثون عن «الجنية» التى تخرج من الماء وما فعلته بفلان أو علان. لذا تذكرنا دوما لوحاته بالأغنيات الشعبية كتلك التى تقول «اصطاد البلطية وجاب عروسة متنقية»، فالبنت والسمكة فى اللوحة مثل «البلطية» بعيون واسعة ترى وتستوعب معانى الكون.
• • •
الطفل الذى كان خزن أيضا العديد من صور لاعبى سيرك عاكف والحلو خلال الطقوس الكرنفالية لمولد السيد البدوى وأخرجها يوما على الورق بعد أن نضج، مستخدما الأحبار المائية أحيانا لكى يكسب لوحاته كثافة لونية، فى حين تشى أعمال أخرى بصبر وتركيز شديدين اتسم بهما، فقد كان عاشقا لرسومات الأبيض والأسود التى نفذها تارة بالفحم وتارة بالحبر الشينى، يكتفى بخطوط رقيقة متشابكة ومتقاطعة مثل شباك الصيد ينسج بها ملامح شخوصه. وفى مرحلة لاحقة بدأت خلال التسعينيات مع وجوده فى منزله بالساحل الشمالى، أخذ ينحت ما أهداه له البحر من قطع أخشاب منحوتة بشكل طبيعى ويلعب بها لكى يشعر بالانبساط والبهجة دون التقيد بأبعاد الكتلة وقوانين النحت، فخرجت إلى النور قطع تلقائية بديعة أصقلتها خبرة السنين، أسماها «طرح البحر».
عند زيارة المعرض تشدنا موسيقى أغنية «يا دنيا سمعانى سمعانى أبويا وصانى» نحو مجموعة أخرى تعرض على الأغلب لأول مرة، اسكتشات رسمها جميل شفيق بالفحم تصور فرقة «ولاد الأرض» يرجع تاريخها للعام 1968، أى خلال حرب الاستنزاف. نميز فيها بالطبع الكابتن غزالى مؤسس الفرقة التى اشتهرت فى بدايتها باسم «فرقة البطانية» لأن أعضاءها كانوا يفرشون البطانية على أرض شوارع مدينة السويس ويعزفون أغانى السمسمية والمقاومة التى ألهبت الحماسة فى تلك الفترة. هذه المجموعة تلقى الضوء على جانب آخر من شغل جميل شفيق اختلطت فيه الثقافة بالسياسة، إذ عمل كرسام صحفى منذ عام 1959 وزامل وقتها محيى الدين اللباد وحجازى، وقد صاحبه الأخير منذ أن كانا طالبين فى مدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا يغطيان الجدران بصور عرابى بعد تأميم قناة السويس فى 1956، وقتها رسم شفيق لوحة كبيرة عن المقاومة فى بورسعيد.
• • •
سمحت له رحلاته الصحفية أن يجوب البلاد من أقصاها إلى أقصاها وأن يكون أكثر قربا من الناس، غرست أقدامه فى أرض الواقع، فكل شىء كان يتنفس سياسة. انضم أيضا إلى شلة «الحرافيش» التى جمعته بنجيب محفوظ وتوفيق صالح وأحمد مظهر وآخرين تمتعوا مثله بالموهبة والبساطة والعمق والثقافة والحس الساخر دون ادعاء أو افتعال. شغلهم الشأن العام مثلما الكابتن غزالى ورفاقه الذين تزين صورهم جدران المعرض، فى تسجيل للحظات رفضوا فيها التهجير وتطوعوا فى المقاومة الشعبية للدفاع عن مدينتهم. أقاموا أمسيات فنية لتوعية الناس وتشجيع الجنود على العودة إلى سيناء لتحريرها. نكاد نسمع أصواتهم وهم يطبلون على الجراكن ويغنون كلمات كتب معظمها الكابتن غزالى الذى كان موظفا حكوميا ورساما ورياضيا وشاعرا يسارى الهوى. تحضرنى كلماته التى تحمل أمنياتنا نحن أيضا فى الوقت الحالى: «والله والله والله.. والله هترجع لبيتك وغيطك يا خال. وهاتلاقى الرملة خضرة على طول القنال. والله والله والله... هترجع تانى لبيتك وبنصرك تتخايل وتحمل من غيطانك وترد الجمايل». وأستحضر كذلك ابتسامة جميل شفيق التى كانت تبزغ كشمس فى ليل أسود.
التعليقات