واعظ لا يعظ أحدا! - بلال فضل - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 5:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

واعظ لا يعظ أحدا!

نشر فى : الأحد 17 مارس 2013 - 10:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 18 مارس 2013 - 5:19 م

تكون في عز شبابك فتلعب برأسك الأحلام، تفتح صدرك للدنيا وأنت تشتهي منها الكثير، يقهرك ضياع بعض الأماني وتضيق نفسك بتأجيل بعضها الآخر، ثم تنجب فتعرف طعما جديدا للحياة، ولا تفهم شيئا في البداية، ثم بعد سنين تقل أو تكثر تفهم «اللي فيها»، وتصبح مستعدّا لأن تقايض كل أحلامك وأمانيك مقابل أمنية وحيدة، أن يأتي يومك قبل يوم أبنائك، ترجو ذلك من الله في سجودك وخلوتك ولحظات صفائك، أنت تعلم أن الموت مصير كل حي، لكنك أيضا تعلم أن موتك وأنت ترى أبناءك ينعمون بالحياة والصحة أحبُّ إليك بكثير، فكم هي غريبة هذه الحياة يا صديقي، وكم هي جميلة أيضا، وكم هو مُعقّد هذا الإنسان الذي أودع الله فيه سره الإلهي، وجعله مستعدّا لكي يموت فداء لأبنائه، ومستعدّا لكي يقتل أبناء الآخرين من أجل أبنائه.

 

 

كفى بالموت واعظا، ولو أكملت الجملة التي تسمعها في كل جنازة وكل عزاء وكل رحيل وربما في كل خطبة جمعة لا تفوتك، لعرفت أن من لم يعظه الموت فلا واعظ له، ومع ذلك أو لذلك نحن لا يعظنا الموت، ربما لأن الحياة نفسها بكل جمالها وسحرها وفتنتها لم تعظنا، فكيف يعظنا الموت بوحشته وفزعته ووطأته الثقيلة، قد ترى ذلك منطقا معكوسا، لكنني أراه المنطق السليم. الأولى بنا أن نتعظ من ضحكات الأطفال لا من غيابهم، أن يغيرنا جمال الحياة وليس انتهاؤها. يكفي نظرك إلى وجه المحبوب أن تعيش عبدا طائعا لله مبتهلا إليه أن يطيل فرحتك بمن تحب. بلاش، قدرتك على أن تشم هواء البحر وأنت تطالع لحظة الغروب كفيلة بأن تجعلك خادما لعباد الله جميعا، لكنه الإنسان يا صديقي، قادر على أن ينسى كل هذا أمام أول شعور قوة ينتابه، قادر على أن ينسى حتى ذلك الشعور المرير بالضآلة الذي يتملكه بعد أن تناله مصيبة الموت، الشعور بأنه لا يملك من أمره شيئا، ذلك الشعور الذي لا يلبث أن يتلاشى دون أن يدري أحد كيف ولا لماذا، ليعود الإنسان إلى ظنه القديم أنه يملك كل شيء، وأن الذي يموت فقط هم الآخرون وأبناؤهم وأحبابهم.

 

 

لا أريد أن أعظك، فالشيطان لا يعظ، لكن دعني أسألك هل تذكر الآن عدد الجنازات التي كان يمكن لها أن تغيرك إلى الأبد، لكنك لم تتغير قطّ بمحض إرادتك، هل تحب الحياة مثلي؟ لماذا إذن لا تتذكر أنها حق لكل من حولك؟ هل ساهمت في جعل حياة الآخرين أفضل؟ هل تبحث عن السعادة الدائمة؟ هل حاولت أن تحصل عليها بإسعاد الآخرين أو جعلهم أقل تعاسة؟ من الذي ضحك عليك وقال لك إنك لو أعرضت ونأيت بجانبك ستجد مهربا آمنا من أسئلة كهذه؟ هل تصدقني لو قلت لك إنني وجدت الحل السحري للهروب من مخافة الموت، وجدته كغيري في الحياة ذاتها، أحاول فقط ألا أظلم الآخرين دائما. أحاول ألا أتعس من حولي. أحاول أن أؤخر وصول المرض إليَّ وإلى من أُحب. أحاول أن أفهم. أن أستمر في التعلم من أخطائي. وأن أحب أخطائي قبل حاجاتي الكويسة. أحاول أن أتصفح كل كتاب اشتريته لكي لا أموت وفي نفسي شيء منه. أحاول القبض على المتعة وأستمتع بفشلي الدائم في ذلك، وعندما يملؤني أحيانا الفخر أنتشي برؤيته يتبدد فور أن أتذكر أنني ولا حاجة. أحاول أن أطلق بين الحين والآخر سجينا من أسر محاكم تفتيشي التي آمل أن أغلقها قريبا، وأحلم بأن يأتي فورا ذلك اليوم الذي لا أفعل فيه شيئا أشعر أنه سيضيع من عمري ولو دقيقة. أحرر كل يوم شبرا من وجداني عندما أتخلص من شيء أنا مضطر لفعله دون أن أحبه. وأشعر بالسعادة لأنني اكتشفت مبكرا أو ربما متأخرا، من يدري، الترتيب السليم للأولويات في أدعيتي لله عز وجل. لم يعد فيها فصال، الأولوية التي يجب أن تدعو الله بها دائما وأبدا هي أن يجعل يومك قبل يوم من تحب، ثم بعد ذلك هناك متسع في رحمة الله وكرمه لكل التفاصيل، حتى تلك التي تظنها غير لائقة للحضور في لحظة دعائك.

 

 

فليأت الموت إذا أراد، المهم أن يأتيني أنا أولا. والنبي يا رب أنا أولا.

 

 

(كتبت هذه المقالة لتنشر في اليوم التالي لإعلان خبر الرحيل الفاجع للطفل محمد علاء رحمه الله حفيد الرئيس المخلوع حسني مبارك، لكن إدارة تحرير صحيفة المصري اليوم منعت نشرها لأنها يمكن أن تُفهم سياسيا بشكل خاطئ مع أني لم أكن أقصد من المقالة سوى تأمل علاقتنا كبشر بالموت، تسبب ذلك المنع في أزمة أدت إلى اعتذاري عن مواصلة الكتابة وعدت للكتابة بعد ضغوط من القراء، ليتم نشر المقالة بعدها بأسابيع، وقد رويت ذلك في كتابي (أليس الصبح بقريب)، المهم أن المقالة بمعزل عن قصتها لا تزال كما ترى صالحة للنشر الآن، وأظنها ستظل صالحة للنشر حتى بعد أن أموت، ليس لأنها عبقرية أو عابرة للزمان، بل لأنها مبنية على ذلك الإفتراض الشائع بيننا والذي يتضح لي الآن كم هو شديد البلاهة، أعني الإفتراض بأن هناك بشرا في بلادنا سواءا كان على كرسي الحكم أو خارجه سيتعظ يوما ما من الموت، ذلك الو

 

belalfadl@hotmail.com