فلما كانت ليلة الخامس عشر من سبتمبر - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 11:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فلما كانت ليلة الخامس عشر من سبتمبر

نشر فى : الخميس 17 سبتمبر 2009 - 11:56 ص | آخر تحديث : الخميس 17 سبتمبر 2009 - 11:56 ص

 ليس لعنوان هذا المقال أدنى علاقة بالذكرى الكئيبة لأحداث الحادى عشر من سبتمبر، وإنما هو يرتبط بتاريخ قد تجهله الأجيال الجديدة. فى تلك الليلة من عام 1956 كانت مصر على موعد مع واحد من أخطر التحديات التى اعترضت مسار نضالها الوطنى فى خمسينيات القرن الماضى. كان جمال عبدالناصر قد أمم منذ أقل من شهرين شركة قناة السويس ردا على سحب الغرب عرض تمويل بناء السد العالى الذى تجسدت حوله آنذاك أحلام مصر فى التنمية الشاملة، ولأن المسألة ليست مجرد قرار يتخذ، وإنما هى قدرة على تنفيذه فقد اختار عبدالناصر القائمقام مهندس محمود يونس رئيس الهيئة العامة للبترول فى ذلك الوقت، وأحد الذين قاموا بنقل الشهيد عبدالحكم الجراحى وزملائه المصابين إلى المستشفى فى أحداث كوبرى عباس عام 1936.

بدا أن عبدالناصر يحاول أن يجمع فى اختياره بين الثقة والعلم والوطنية، أما الخبرة فقد أعطى محمود يونس بعد إعلامه بقرار التأميم مجموعة من الكتب والدراسات والتقارير ليستعين بها فيما هو مقبل عليه من مهام، وكانت المدة بين تكليف محمود يونس بهذه المهمة التاريخية وتنفيذها 55 ساعة فقط. اختار محمود يونس أن يكون ذراعه اليمنى فى العملية هو المهندس العسكرى عبدالحميد أبوبكر سكرتير عام الهيئة المصرية للبترول آنذاك، وصاحب المذكرات التى أنقل عنها، التى تمنى الكاتب الكبير صلاح منتصر فى تقديمه لها أن تكون كتابا مقررا على كل تلاميذ مصر، وهو ــ أى المهندس أبوبكر ــ بدوره صاحب سجل نضالى فى الحركة الطلابية المصرية، وواحد من أكفأ أبناء مصر وأكثرهم عشقا لها.

عندما سأل عبدالناصر محمود يونس عن معلوماته عن قناة السويس أجاب بصدق إنه لا يعرف عنها سوى القليل، وأنه أثناء الحرب العالمية الثانية كان يرابط وجنوده على طول القناة، أما عبدالحميد أبوبكر فقد أجاب بأن كل معلوماته أن ثمة ناديا فى بورتوفيق يسمى «النادى الفرنساوى» يتناول فيه طعامه عندما يأتى زوار أجانب لمعمل البترول الحكومى بالسويس، ويشاهد من شرفته السفن المارة فى القناة، ومع ذلك فإن الوطنية المتجذرة فى الرجلين، وفى كل من اختاراه معهما من عسكريين ومدنيين، بالإضافة إلى الدراسة المتعمقة لكل ما يتعلق بالقناة من خلال ما توافر لديهما فى تلك المدة الوجيزة، والتخطيط السليم الذى تحسب لكل الاحتمالات ــ كلها أمور جعلت من قرار عبد الناصر واقعا بملء السمع والبصر يحكى عن وطن ناهض يبحث عن مستقبل يليق به رغم التحديات.

غير أن التحدى لم يقتصر على قرار التأميم، فقد كان القرار ضربة موجعة للمصالح الغربية، ولذلك تعددت المحاولات والمناورات لإفشاله، وكان الأمر فى منتهى البساطة، فلو ثبت عجز مصر عن إدارة القناة سوف يسهل تبرير التدخل الخارجى لوقف هذا العبث المصرى باستقرار العالم ورفاهيته الاقتصادية.

من هنا تبلورت مؤامرة سحب المرشدين الأجانب، على أساس أن عدد المرشدين فى القناة كان يتجاوز المائتين بقليل منهم 29 مرشدا مصريا فقط، ولنا أن نتصور الآثار الكارثية الممكنة لخطوة سحب المرشدين الأجانب على صدقية الإدارة المصرية لقناة السويس.

لكن «رجال التأميم» ــ كما يسميهم أبوبكر فى مذكراته ــ استطاعوا أن يواجهوا التحدى، وكانت أولى خطواتهم هى التنبؤ السليم بالأزمة منذ اللحظة الأولى. يقول أبوبكر: «لم تأت الأيام الأولى من شهر أغسطس إلا واحتمال انسحاب الأجانب يقفز من موقع الاحتمال إلى دائرة اليقين»، وهكذا نجح الرجال فى أن يخففوا من تأثير الأزمة على كفاءتهم، فمن المعروف أن ضيق الوقت يضغط على أعصاب القائمين بإدارة الأزمة، ولذلك فإن مواجهة احتمال انسحاب المرشدين الأجانب قبل حدوثه بشهر ونصف الشهر خير ألف مرة من المفاجأة به ليلة حدوثه. من هنا بدأت الإدارة المصرية خطتها المضادة: الدراسة الميدانية الدقيقة لمهمة الإرشاد ــ تخفيض مدة تدريب المرشدين الجدد إلى أقل ما يمكن دون الإخلال بكفاية التدريب ــ الاستعانة بمرشدين من سلاح البحرية والبحرية التجارية ومصلحة الموانئ والمنائر ــ اتخاذ عدد من الإجراءات الفنية الضرورية للنجاح فى ظل الإمكانات المتاحة ــ الاستعانة بمرشدين من دول العالم المختلفة، ناهيك عن المرشدين اليونانيين الذين رفضوا ضغوط الشركة المؤممة والحكومات الغربية فى موقف تاريخى لا يمكن نسيانه.

هكذا لم تأت ليلة الخامس عشر من سبتمبر 1956 إلا وكان أبناء مصر على أتم الاستعداد لمواجهة التحدى، على الرغم من الزيادة المفتعلة فى عدد السفن التى طلبت العبور فى تلك الليلة فى محاولة لإرباك الإدارة المصرية، ولم يكن حسن استعداد الإدارة المصرية بأقل روعة من تلك الجماهير التى احتشدت على طول مجرى القناة تنتظر وتترقب وتحتضن أبناءها وهم يواجهون التحدى، وعندما حانت ساعة الصفر فى منتصف ليلة 14/15سبتمبر كان على الإدارة المصرية أن تسير القناة بنحو ٪28 من موظفيها و٪15 من مرشديها. غادر المرشدون الأجانب سفنهم وعلى وجوههم ابتسامة السخرية والتحدى، وفى تمام الساعة الثانية والنصف صباحا بدأت أول سفينة تدخل القناة بإرشاد مصرى. يقول عبدالحميد أبوبكر: «كنا من فوق البرج نشاهد جماهير الشعب تحتشد على طول القناة.. وفجأة سمعت دويا هائلا. إنها أصوات الجماهير تصرخ وتهتف من أعماق قلوبها بالفرح. كانت الجماهير فى حالة جنونية من السعادة.. وكان يخيل إلى أنهم يريدون أن ينزلوا إلى القناة ليساعدوا على دفع السفن بأيديهم»، وبعد أن تم إدخال جميع السفن القناة حوالى الرابعة صباحا انتقل رجال الإدارة المصرية إلى الإسماعيلية، وعلى طول القناة بعد بورسعيد كانت الجماهير لاتزال متراصة تهتف وتحيى المرشدين، وما حدث فى بورسعيد والإسماعيلية تكرر فى السويس، «وكانت جموع الناس على طول شارع القناة فى بورتوفيق تتحرك شمالا مع اتجاه القوافل، وتلوح بالأيدى والمناديل».

بعدها ارتفع صوت عبدالناصر يعلن نجاح المرشدين المصريين و«أشقائهم اليونانيين» فى إدارة القناة، ويمنح باسم الشعب المصرى وسام الاستحقاق لهؤلاء الرجال.

لم يكن ما حدث فى تأميم القناة وإدارتها منبت الصلة بأمور أخرى تشير إلى وطن يحاول النهوض بنجاح لافت. أتراه من يكون إذن ذلك العبقرى الذى تفتق ذهنه عن أن يعهد إلى شركات أجنبية بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذا الحدث التاريخى كى تجمع القمامة من كبريات المدن المصرية؟ وأى إحساس راوده أو أية مصلحة دفعته وهو يتخذ ذلك القرار الذى لا يعنى سوى الاستخفاف المطلق بقدرات أبناء مصر؟ لقد سمعنا على مضض أن مصر بحاجة إلى الخبرة الأجنبية لإدارة الفنادق السياحية الكبرى، وفغرنا أفواهنا دهشة عندما بدأ حديث عن تشغيل الجمارك المصرية بواسطة أجانب، ثم بلغ السيل الزبى بتكليف شركات أجنبية بمهمة كجمع القمامة. فأى هوان بلغناه؟ وفى أى الظروف حدث؟ لقد أدار أبناء مصر باقتدار كامل منذ ثلاثة وخمسين عاما واحدا من أهم المرافق المائية فى العالم فى ظروف أزمة دولية طاحنة، فهل يمكن لعاقل أن يقتنع بعد ذلك بأن على مصر أن تنتظر شهورا على الأقل لكى تتمكن من الخلاص من مذلة القمامة التى تكسو شوارعها بحلة كئيبة تنذر بسوء المنقلب؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية