وقالت الصناديق للديك نعم! - بلال فضل - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 11:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وقالت الصناديق للديك نعم!

نشر فى : السبت 18 يناير 2014 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 18 يناير 2014 - 9:00 ص

«الجماهير كاس وداير، والصناديق دوارة يا برنس تماما كالميادين»، يعنى، إذا كنت قد تعلمت من السنين الثلاثة الماضية دروسا ما، فينبغى أن يكون هذا الدرس أحدها، لذلك لا تضيع وقتك مع من يضيع وقته فى مهاجمة الشعب وتطليع العبر فيه لأن اختياره الصناديقى لم يعجبه، فتلك حماقة، تشبه تماما حماقة من يقوم بتمجيد الشعب وتطليعه سابع سماء لأن اختياره الصناديقى وافق هواه.

الانفعالات اللحظية حق مكفول لكل مواطن، لذلك لا تنشغل بمناقشة من يردد كلاما من نوعية «إحنا أعظم شعب فى العالم»، ودع أقرب اشارة مرور مزدحمة تقوم عنك بالمهمة، وغالبا ستجده يردد فيها كلاما من نوعية «إحنا شعب لازم له إبادة جماعية»، وعندها أيضا لا تنشغل بمناقشة كلامه، لأنك ستجده مع أقرب حقنة شحن عاطفى يردد بيقين «إحنا أعظم شعب فى العالم»، وهكذا «دواليه».

أنت تعلم ما الذى يمكن أن يحدث لو نشر شاعر فى هذه الأيام قصيدة تقول «وما أنتِ يا مصر دار الأديب.. وما أنتِ بالبلد الطيب.. وشعبٌ يفرُّ من الصالحات.. فرار السليم من الأجرب»، لعلك تعلم أن قائل هذه الأبيات هو شاعر النيل حافظ ابراهيم، وهو نفسه الذى كتب رائعة (مصر تتحدث عن نفسها)، لذلك لا تراهن على المواقف العاطفية مهما بدت صاخبة وصادقة، ودعنا بعد أن نتبادل قصائد المديح الوطنى وقصائد الهجاء الوطنى أيضا من أجل جلد الذات أحيانا ومرهمتها أحيانا، نتكلم أكثر عن موقعنا الوطنى فى الإحصائيات الدولية للأفضل والأسوأ فى التعليم والصحة والبحث العلمى ومكافحة الفساد وتداول المعلومات وتمكين الشباب، لعلنا «نتواصى بالحق والصبر»، ونذكر أنفسنا بقولة المرحوم عبدالحليم حافظ الخالدة: «طويلة لسه طويلة»، التى لو آمن بها الكثيرون لهدأت أعصابهم الملتهبة على الدوام، ولأدركوا أن كل شىء فى الدنيا له نهاية، وخصوصا الأدرينالين المصاحب لنشوة التخلص من شركاء الوطن المخالفين، فالركة كلها على من سيمتلك الصبر والعقل بعد أن ينقشع غبار المعركة، حين ينظر «اللى بقيوا» حولهم ليدركوا ما جنته أيديهم بأنفسهم وبوطنهم.

لن أكذب عليك، لست منزها عن لذة الهيافة، ولذلك أعترف أن مشاهد الرقص الجماعى أمام مراكز الاستفتاء أبهجتنى، ليس لأننى ضعيف أمام البهجة أينما حلت لا تنس أن شعار (خلى الشعب يعيش) انطلق من أحد أفلامى ولكن لأننى وجدت تلك المشاهد نهاية «مسخراوية» منطقية لفيلم (موتوا بغيظكم) الذى لعب الإخوان بطولته على مدى عامين ونصف، مرددين فى كل مشاهده تلك العبارة الحقيرة على كل من كان يذكرهم بأن الديمقراطية ليست مجرد صناديق انتخابات، وأن الديمقراطية التى لا تكفل حق المعارضة ولو كانت أقلية فى التعبير الحر الكامل عن رأيها، ليست سوى أكذوبة لن يكتب لها الاستمرار طويلا.

ربما لو كانت ستتاح لى الفرصة لوضعت تلك المشاهد الراقصة على فلاشة وأرسلتها إلى خيرت الشاطر فى محبسه، بعد أن أضيف إليها صوت نجم مارس 2011 الشيخ محمد حسين يعقوب وهو يهتف «وقالت الصناديق للدين نعم.. واللى مش عاجبه يروح كندا»، فتهلل له الجموع المتشددة التى اعتبرها الشاطر كنز الإخوان الإستراتيجى الذى سيساعدهم على الإفلات بخيانتهم للثورة، لكننى لن أفعل ليس فقط لأنه سيظن ذلك رغبة فى التشفى لا سمح الله، بل لأننى متأكد أن الشاطر لن يفهم مغزى رسالتى، بل سيفعل ما يفعله كثير من إخوته خارج السجن الذين يبدأون فى تعليقهم على الاستفتاء بالحديث عن الجماهير المحشودة غصبا والصناديق المزورة، ثم ينتقلون إلى اللعب بالورقة الطائفية التى ما زالت تستهويهم برغم احتراقها، ثم يختمون حديثهم بعبارة «بس الديمقراطية مش الصناديق بس»، تلك العبارة التى كانت حتى أشهر مضت لا تلقى منهم إلا ردودا أقلها سماجة: «موتوا بغيظكم».

يشهد الله أننى لم أكن أريد أن يموت أحد بغيظه ولا بقهره فى هذا الوطن، وما يجعلنى منذ مجزرة المنصة وما تلاها، أعلن رفضى لقتل الإخوان على الهوية وممارسة سياسة العقاب الجماعى ضدهم دون تفريق بين المجرم والبرىء، ليس مثاليتى الحالمة كما يتصور البعض، بل لأن واقعيتى البحتة علمتنى أن «الاستقواء بالحشود سلاح ذو حدين»، وأن الرقص على جثث الخصوم لا يبنى وطنا متقدما، بل يخلق عشة فراخ يسود فيها تقديس الديك المتغلب على العشة، وتنتشر هواية الالتصاق الطوعى بالفضلات الملقاة فى الطرقات، ويغلب على سكانها الاستسلام للمصير المجهول وسيادة الحلم الفردى بالنجاة من الذبح الوشيك.

فى عهد الإخوان البائخ، كانت الشاشات والصحف تمتلئ بمن يقولون صباح مساء إن الديمقراطية ليست هى الصناديق فقط، وإنها لا مستقبل لها بدون احترام رأى الأقلية وضمان حرية المعارضين، واليوم وفى مواجهة حملات التنكيل المادى والمعنوى بأصحاب الآراء المعترضة أو حتى المتحفظة، لن تسمع لهؤلاء ركزا ولن تجد لهم أثرا، فقد انتقلوا ذاتيا إلى التشغيل على وضع «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، مراهنين على استنادهم إلى حائط القمع الذى سيحميهم وأسيادهم من سقوط الإخوان السريع.

قد يكون ذلك واردا، لكن المؤكد أنه لا يمكن صناعة مستقبل مشرق بكتالوج الماضى الحقير، وأن خلطة «التخويف والتخوين» قد تساعدك على عبور مرحلة مؤقتة، لكنها لن تنجح أبدا فى حل مشاكل مزمنة يعانى منها الملايين، بمن فيهم أولئك الذين رقصوا طربا برحيل الإخوان، ويوما ما، عندما ينتهى مفعول النشوة الوطنية، سيصحو الناس على حقيقة الاشتغالة العظيمة، ليحصوا خسائرهم ومكاسب الذين تاجروا بالكراهية وتربحوا من التخويف وبنوا أدوارا إضافية فى مستقبل أنجالهم وأحفادهم، بـ «مونة» قوامها دماء المدنيين والضباط والجنود، ودموع الأرامل واليتامى.

لقد اختطف الجنرالات وحلفاؤهم من قبل إرادة الميادين الثائرة بالصناديق الراغبة فى الاستقرار والبركة، ثم قاموا بتوظيف الميادين الغاضبة للإطاحة بحلفاء الأمس وصناعة واقع جديد عبر الصناديق الراغبة فى الاستقرار والحنان، لكن الطمع خطيئة الإنسان الأخطر يقودهم الآن إلى احتكار الميادين والصناديق معا، عبر سياسة استخدام جيل الآباء والأمهات لقمع وتطفيش وتزهيق جيل الأبناء، وهى سياسة لم يتم تطبيقها فى بلد إلا وكانت مسلية فى البداية، قبل أن تقلب فى النهاية بغم مبين، يطيح أول ما يطيح بصانعيها الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ولذلك قالوا فى الأمثال: الدبة التى تقتل صاحبها القديم، لن يفرق معها صاحبها الجديد ببصلة.