ثلاثة أجيال من الطبقة الوسطى فى مصر - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثلاثة أجيال من الطبقة الوسطى فى مصر

نشر فى : الثلاثاء 18 نوفمبر 2014 - 9:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 18 نوفمبر 2014 - 9:05 ص

الفارق الزمنى بين جيل وآخر، هو نحو ثلاثين عاما، فهذا هو الزمن الذى ينقضى، فى المتوسط، بين مولد شخص ومولد ابنه أو ابنته، لقد عاصرت إذن ثلاثة أجيال من المصريين: جيلى أنا وجيل أولادى وجيل أحفادى. صحيح أن أكبر أحفادى لم يبلغ بعد الثلاثين، ولكن لى من الإخوة الأكبر منى سنا، من بلغ بعض أحفادهم هذه السن.

لدىّ إذن خبرة لا بأس بها بميول وأنماط سلوك ثلاثة أجيال من المصريين، تنتمى كلها إلى الطبقة الوسطى. وأستطيع أن أميز بين الميول وأنماط السلوك المتفردة (أو الشاذة) لهذا الفرد منهم أو ذاك، وبين ما يشترك فيه مع كثيرين غيره من أفراد جيله، ومن ثم يصبح من المعقول جدا أن نعتبر هذا النوع الأخير من السلوك والميول نتيجة للظروف الاجتماعية التى أحاطت بجيل دون غيره.

خطر لى أن أقارن بين هذه الأجيال الثلاثة من المصريين، وأن أستعيد فى ذهنى بعضا من أهم التغيرات التى طرأت على ظروف مصر السياسية والاجتماعية، والتى يمكن ان يكون لها أثر فى تشكيل ميول الناس وسلوكهم، عسى أن اكتشف بعض الفوارق المهمة بين هذه الأجيال (رغم انتمائها لنفس الطبقة) وأن أحصل فى نفس الوقت على تفسير لهذا التغير.

فلنأخذ مثلا شخصا ولد فى سنة 1930 (أو سنة قريبة منها)، ورزق بولد أو بنت فى سنة 1960، ثم رزق هذا الولد أو البنت بطفل فى 1990. هذا الطفل الأخير عمره الآن يقرب من 25 عاما، فيكون لدينا ما يقرب من ثلاثة أجيال كاملة.

الجيل الأول أرسله أبواه لمدارس حكومية، إذ لم يكن هناك أى سبب للبحث عن مدارس أخرى. المدارس الخاصة كانت نادرة، والأجنبى منها كان مقصورا على أولاد الجاليات وبنات الجاليات الأجنبية والطبقة العليا المستغربة، ولم يكن فى المدارس الحكومية على أى حال ما يشوبها. بعد المدارس الحكومية دخل هذا الجيل الجامعة المصرية الوحيدة فى ذلك الوقت باستثناء الأزهر (جامعة القاهرة)، ولكنها كانت على مستوى عال من الكفاءة حتى بالمقارنة بالجامعات الأجنبية الراقية، سواء دخل الابن الهندسة أو الطب أو الحقوق أو التجارة ...إلخ.

كان عمر أفراد هذا الجيل نحو 22 عاما عندما قامت ثورة 1952 فعاصروا إجراءات عبدالناصر الاقتصادية والاجتماعية كالتأميم وإعادة توزيع الدخل، وربما أصبح بعضهم مديرا أو موظفا كبيرا فى إحدى شركات القطاع العام التى أممها أو أنشأها عبدالناصر. ولكن التوظف فى الحكومة أو القطاع العام فى ذلك الوقت لم يكن هناك أيضا ما يعيبه، فالرواتب معقولة بالنسبة للأسعار، إذ لم يعرف هذا الجيل التضخم إلا بعد أن تجاوز سن الأربعين. لم يفكر هذا الجيل إذن فى الهجرة إلى خارج مصر، إذ لم تصبح الهجرة مغرية إلا بعد قدوم التضخم. لم تكن الرواتب وحدها معقولة وكافية، بل كانت حاجات هذا الجيل معقولة أيضا، إذ لم يكن الانفتاح قد بدأ بعد، ولا السلع المستوردة الخلابة قد وصلت بعد، ولم يكن هناك تليفزيون ملون، مفتوح طوال الليل والنهار، ويمتلئ بالإعلانات عن أحدث السلع.

أما الجيل الثانى، الذى ولد فى نحو 1960، فقد شعر بالتضخم قبل أن يدخل الجامعة، كما شعر أيضا بوطأة الحاجة إلى السلع الجديدة قبل أن يفكر فى الزواج. الأرجح أن الابن والبنت أرسلا أيضا إلى مدارس مصرية حكومية، رغم اتضاح التدهور فى مستوى التعليم فيها. ولكن فرص التوظف المتاحة عند التخرج لم تكن متوافرة إلا برواتب غير مجزية، إذ بدأت الحكومة تسحب يدها من الالتزام بتعيين الخريجين، ولم تكن الشركات الأجنبية قد وصلت بعد. من المحتمل جدا إذن، أن الفتاة التى أراد الابن (المولود فى 1960)، أن يتقدم لخطبتها، أصر أبواها على مهر وأثاث فاقا قدرة أبيه (المدير المحترم بالقطاع العام) على الادخار، إذ لم يبد له الادخار ضروريا فى شبابه، ولم يذهب على أى حال إلى دولة من دول الخليج. من المحتمل أيضا أن يخيب أمل الابن فى الزواج ممن يحب، لهذا السبب، ويضطر إلى تأجيل الزواج سنة بعد أخرى، وربما اضطر هو نفسه إلى السفر إلى الخليج.

عندما وصلنا إلى سنة 1990، كانت حالة المدارس والجامعات الحكومية قد وصلت إلى درجة من التدهور جعلت آباء وأمهات الطبقة الوسطى مستعدين للتضحية بأشياء مهمة فى سبيل إرسال أولادهم وبناتهم، المولودين فى تلك السنة، إلى مدارس وجامعات خاصة، وبمصاريف باهظة. فإذا بنا نرى شبانا مصريين مائة بالمائة يتلقون تعليمهم بلغات أجنبية، ويختلط كلامهم بتعبيرات نشأت فى مجتمعات غير مجتمعاتهم، فيضاف سبب آخر لتدهور لغتهم العربية (غير ما يسمعونه ويرونه فى الإعلانات). ولكن هؤلاء الشبان يجيدون استخدام الكمبيوتر، ودائمو الاتصال بمعارفهم بالتليفون المحمول الذى يتجدد فى كل عام، بل ويسافرون فى رحلات إلى الخارج تنظمها مدارسهم أو جامعاتهم الخاصة والأجنبية، فيزدادون معرفة بالعالم وبأنماط جديدة من الحياة.

بالمقارنة بجدهم الذى كان سعيدا بالعمل فى وظيفة محترمة بالقطاع العام، وبالأب الذى حقق بعض المدخرات من السفر إلى الخليج، انحصر أمل هذا الجيل فى العثور على وظيفة بشركة أو بنك أجنبى، مما تكاثر فى مصر بعد عدة سنوات من الانفتاح، بحيث يحصلون على راتب معقول يتناسب مع مستويات الأسعار التى لم يعهدها لا جدهم ولا أبوهم، ويسمح لهم بشراء سيارة أصبحت ضرورية للانتقال من أول المدينة إلى آخرها، وإن أضاع هذا من عمرهم ساعتين أو أكثر كل يوم، ولكن يخفف من وطأة حالة المرور ما تحتويه سياراتهم من أجهزة للموسيقى وأشرطة وسيديهات بها أحدث الأغانى.

<<<

قبيل يناير 2011 كنا سيئى الظن جدا بهذا الجيل الذى ولد حوالى 1990، ونظن أنهم لا يهتمون إلا بمشروعاتهم الخاصة، والسهر مع أصدقائهم فى المطاعم ومحال القهوة الجديدة التى انتشرت فى كل مكان. لا يستطيعون كتابة خطاب بلغة عربية سليمة، ويشعرون بالولاء للغرب ونمط حياته أكثر مما لديهم من ولاء لوطنهم. ولكننا فوجئنا جميعا برؤية الميادين تكتظ ابتداء من 25 يناير، بالذكور والإناث من هذا الجيل، ويصرون على أن يبقوا فى الميادين والشوارع حتى يسقط رئيس الجمهورية. فوجئنا أيضا بنمط جديد من التعامل البالغ التحضر بين الذكور والإناث، وبين المسلمين منهم والأقباط، ومعاملتهم الطيبة للطبقات الأدنى منهم، وقدرتهم على تحمل البرد، ولا مبالاتهم بقلة ما يجدونه من طعام. بل وبقدرتهم المذهلة على ابتداع أغان جديدة، بألحان وكلمات من نوع غير مألوف، ولكنها صادقة وتلقائية، يغنونها وهم جالسون على أرض الميدان، وبما قاموا برسمه من لوحات جميلة على الحوائط فى الشوارع، تعبر عن معان جديدة أيضا. من المفيد أن نحاول اكتشاف الأسباب الكامنة وراء هذا الاختلاف المذهل بين هذا الجيل الجديد من الطبقة الوسطى المصرية، وجيل آبائهم، وجيل أجدادهم. ولكن المؤكد أنه جيل مختلف تمام الاختلاف، وأنه واعد بأشياء جميلة جدا بمجرد أن تنتهى حالة الإحباط الحالية.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات