إذا نظرنا إلى لعبة الشطرنج وعدنا بالذاكرة للعام 1997 سنجد حدثا محفوراً فى تاريخ هذه اللعبة وهو فوز جهاز الكمبيوتر ديب بلو على جارى كاسباروف بطل العالم آنذاك ومن أقوى اللاعبين فى تاريخ اللعبة حسب رأى الكثيرين. ديب بلو هو جهاز كمبيوتر عملاق صنعته شركة أى بى إم وتكلف عدة ملايين من الدولارات. قد تتساءل لماذا تدفع شركة المفترض أنها هادفة للربح تلك الملايين من أجل لعبة، خاصة أن الشطرنج ليس لعبة شعبية مثل كرة القدم مثلاً؟ هذا هو موضوع مقال اليوم وقد ناقشناه منذ عدة سنوات لكن لم نغط جميع جوانبه. ما أهمية صنع أجهزة غالية الصنع من أجل لعبة؟ ما أهمية صنع روبوت يلعب كرة السلة؟ ما أهمية الوصول للمريخ وإنفاق المليارات من أجل وضع مركبة على سطحه، خاصة أن العالم يواجه مجاعات وأمراضا ومشكلات كثيرة أولى بتلك الأموال؟ هذا ما سنتحدث عنه اليوم.
...
نحن لن نتكلم هنا عن تصميم ألعاب من أجل التربح فهذا موضوع آخر. نحن نتكلم عن تصميم ألعاب لأهداف تكنولوجية. صُنع جهاز كمبيوتر وبرمجيات للعب الشطرنج ساهم فى تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعى وأيضا تطوير أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة. جهاز ديب بلو الذى ذكرناه كان يحتل نصف حجرة. الآن برمجيات لعبة الشطرنج المجانية التى تستطيع وضعها على تليفونك المحمول تفوز بسهولة على بطل العالم الحالى فى الشطرنج.
هل انتهى دور الشطرنج فى أبحاث الذكاء الاصطناعى؟ ليس بعد. برمجيات الشطرنج تجاوزت القدرات البشرية إذا لعبت مباراة ضد الإنسان، لكنها لا تستطيع تأليف مسائل شطرنجية. المسألة الشطرنجية هى تأليف موقف على رقعة الشطرنج وعلى اللاعب أن يجد النقلة الرابحة. لاعب الشطرنج البشرى يمكنه تأليف ذلك لأنه يعلم كيف يفكر البشر فيمكنه وضع مسألة تحتاج إلى تفكير، لكن البرمجيات لا تعرف ذلك. طريقة حسابات البرمجيات فى الشطرنج تختلف عن البشر. لذلك هذه مهمة للباحثين لتصميم برمجيات تفكر بطريقة أقرب للبشر ويمكن استخدام نتائج هذا البحث فى مجالات أخرى عديدة.
...
لنأخذ مثالاً آخر: استكشاف الفضاء. عندما تقرر وكالة ناسا الأمريكية إرسال مركبة إلى المريخ، فماذا ستستفيد من ذلك؟ لنضع القوة الناعمة جانباً ونركز على التكنولوجيا:
• أولا: إطلاق مركبة للفضاء فإن ذلك يحتاج إلى تطوير الصواريخ مما يمكن استخدامه استخدامات حربية بعد ذلك.
• ثانيا: كلما كان المكان بعيدا (المريخ أبعد من القمر) فإن ذلك يحتاج إلى تطوير فى وسائل الاتصالات.
• ثالثا: المركبة التى تهبط على سطح المريخ وتقوم بجمع عينات يجب ألا تعطل وهذا يستلزم أبحاثا لصنع أجهزة كمبيوتر لا تعطل، تلك المركبة هى فى النهاية جهاز كمبيوتر.
• رابعا: تحليل العينات من الكواكب الأخرى يساعد فى مجالى الكيمياء والفيزياء.
• خامسا: تلك المركبة ستظل هناك تقوم بعملها لسنوات مما يستلزم تصميم طرق مبتكرة لتوليد الطاقة.
• سادسا: إرسال بعض النباتات والحيوانات، بل والميكروبات إلى الفضاء يساهم فى تطور علوم الأحياء والطب والزراعة.
كل تلك المخترعات والابتكارات التى وُلدت من رحم مشروعات استكشاف الفضاء ستجد طريقها لحياتنا اليومية ولرفاهية البشر.
كلما كان البشر فى محنة كان ذلك دافعا لعمل مجهود يساهم فى التقدم العلمى والتكنولوجى، لذلك كانت الحروب من الأوقات التى تزدهر فيها الاكتشافات العلمية والتكنولوجية. الحرب العالمية الأولى كانت تقوم على الكيمياء لذلك تطورت القنابل وما شابهها. الحرب العالمية الثانية هى حرب الفيزياء ومشروع مانهاتن الذى طور القنبلة النووية هو أوضح دليل على ذلك، ثم وجدت الطاقة النووية طريقها للاستخدام السلمى. الحاجة أم الاختراع، وليس وباء الكورونا عنا ببعيد.
...
عندما نرى شركة عالمية تصنع لعبة أو مشروعا يبدو بدون فائدة يجب أن نفكر فيما نتعلمه من هذه المشروع. من الممكن أن نستغل ذلك فى العملية التعليمية مثل مشاريع التخرج فى الجامعات. يمكننا تكليف الطلاب بمشروعات تشبه الألعاب لكنها تعلمهم مهارات مهمة تفيد فى مجالات كثيرة، لنضرب بعض الأمثلة:
• صنع روبوت يتسلق هضبة، وبهذا يتعلم الطلاب طرق تعامل المركبات مع الأسطح غير المستوية.
• جعل مجموعة من الروبوتات تتعاون على القيام بمهمة، يمكن استغلاله فى صنع مسيرات يمكنها التعاون فيما بينها.
• صنع نظم محاكاة لمرور السيارات فى الطرق، مثلاً تحديد اتجاه المرور فى الشوارع والبرمجيات تحدد إذا كان سيسبب اختناقات مرورية.
هناك الكثير من الأمثلة وما نتعلمه من كل مثال يمكن استغلاله فى مشروعات أخرى أكثر أهمية. ما نتعلمه من الأمثلة الثلاثة المذكورة أعلاه يمكن استخدامه فى تصنيع السيارات ذاتية القيادة مثلا.
يجب أن نلتفت لما نحتاجه مثل تحلية مياه البحر أو توليد طاقة نظيفة إلخ وتصميم مشروعات علمية (حتى وإن كانت على شكل ألعاب) لإيجاد حل لتلك المشاكل.
ليس كل اللعب تضييعا للوقت، البعض منه قد يكون مشروعا تعليميا أو بحثيا.