ليلة فى السيرك القومى - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ليلة فى السيرك القومى

نشر فى : الخميس 29 مارس 2018 - 9:50 م | آخر تحديث : الخميس 29 مارس 2018 - 9:50 م

أمضيتُ ليلة ممتعة فى السيرك القومى بالعجوزة، شاهدت فنانين رائعين من كل الأعمار، تعبت من التصفيق، وأدهشنى تجاوب الأطفال مع الفقرات، وأسعدنى بشكل أكبر وجود عدد كبير من الأشقاء العرب.

اكتشفتُ فجأة أننى لم أذهب أبدا لمشاهدة عروض السيرك المصرى، ربما جاء هذا الاكتشاف أثناء مشاهدتى للفيلم الأمريكى البديع «the gratest showman» الذى يحكى عن مؤسس أشهر سيرك أمريكى، وعن فنانيه المختلفين.

تذكرت أيضا أن شغفى الطويل بعالم السيرك وأفلامه منذ الطفولة، لم تترجمه زيارة واحدة إلى عروضه الحية، وتذكرتُ ما هو أغرب: لقد زرتُ السيرك القومى مرتين فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات فى مهام صحفية: مرة التقيتُ فيها الفنانة الراحلة «محاسن الحلو»، والثانية التقيتُ فيها الرجل الكاوتشوك الفنان المذهل «محمد رماح»، فى الزيارة الأولى قمنا بتصوير الأسود والأشبال قبل العرض، وفى الثانية قمنا فى الصباح بتصوير رماح أثناء التدريب فى مدخل السيرك، وعلى الرغم من ذلك لم أشاهد العروض، ربما لأننى كنت شغوفا أكثر بمعرفة الفنانين أنفسهم، وقد كانوا وسيظلون بالنسبة لى شخصيات استثنائية بمواهبهم، وبعشقهم للسيرك، وبتطويرهم لأدائهم.
ما زلت أتذكر رماح وهو يتحدث بفخر عن قدرته على وضع جسده المرن فى قِدْرة فول، وما زلتُ أستحضر صورة محاسن الحلو، وكانت فى سن متقدمة، وهى تتحدث بحب عن حيواناتها المفترسة.

لم أفتقد شيئا من هذا الإعجاب الكبير فى ليلتى الجميلة فى السيرك القومى، بل لعله صار مضاعفا، لا أعتقد أن ما يحصل عليه هؤلاء الفنانون الرائعون من أجر يعادل جهدهم وموهبتهم، هم بالأساس يعشقون عملهم، وأعتقد أنهم أيضا يتوراثون مهنتهم، ويرضعون فى طفولتهم الشغف بالخطر والاستعراض وتقديم البهجة للناس.

عائلة الحلو التى تستحق التكريم حاضرة دوما بأبنائها، وبنات وشباب أصغر سنا لا يقلون مهارة وحضورا عن الكبار، ربما يكون بعضهم تحت العشرين، ترتيب الفقرات جيد ومشوق، خصوصا مع تعليق مذيعتى العرض، اللتين تتبادلان الحوار أحيانا مع اللاعبين واللاعبات، واللتين تصنعان العلاقة بين نجوم الاستعراض والجمهور، وعلى الرغم من أن الانتقال بين فقرة وأخرى، كان يمكن أن يصبح أكثر سلاسة وسرعة، وعلى الرغم من أننى افتقدت أحيانا الموسيقى المصرية المصاحبة للفقرات، بدلا من الموسيقى الأجنبية، فإن العرض بأكمله كان تجربة أمتع كثيرا مما تخيلت.

خرج من داخلى طفل صغير وهو يصفق ويضحك ويعلق بصوت عال، وكذلك فعل أولياء الأمور، وكأنهم ينافسون أطفالهم فى السعادة، بعد لحظات كنت أشارك اللاعبين حركاتهم الصعبة، وأدعو بصدق أن تكتمل، ثم أصفق بلا توقف إعجابا باجتياز الاختبار: لاعب يمشى على السلك معصوب العينين، وآخر يقود أصغر دراجة فى العالم، ولاعب لم ينزل أبدا من فوق كرة مطاطية طوال فقرته، ولاعبة تمسك سوطا تُمزق به أوراقا يمسكها زميلها قطعة قطعة، ولاعب بالأطواق الصغيرة يمارس مهاراته بالاشتراك مع الجمهور، يطلب منهم أن يرموا الأطواق، فيلتقطها برقبته، ودوما تعوم الحلبة فى طوفان من الألوان، ودوما تكمل الموسيقى بهجة العرض وفنونه.

فى عروض الحيوانات، تزيد الإثارة، هناك الخيول والأسود والنمور، واثنان من عائلة الحلو العظيمة: محمد الحلو يروض الخيول، يوقفها على قوائمها، ويمنحها السكر، ولوبا الحلو تتحكم فى الأسود والنمور كيفما شاءت، وتمنحها اللحوم، لا شك عندى فى أن فقرة لوبا تتحدى بل تتفوق على مثيلاتها فى سيركات العالم، إنها تحرك حيواناتها بالصوت وبالإيماءة وربما بنظرة العين، يخرجون عندما تناديهم بأسمائهم، وتقنعهم بالغناء على الرغم من صوتهم الخشن، النمر يحتضن الأسد، ووراء الأسوار الفاصلة، مجموعة من أمهر المساعدين، كلهم من الشباب صغير السن.

وبين العروض الحركية، وفقرة الخيول والأسود، يظهر أشهر نجوم السيرك الذين يترجمون فكرة بهجة الفوضى، يقتحم ثلاثة من المهرجين الحلبة، يحاول المذيع الوقور إخراجهم بلا جدوى، ولكنهم يعتصمون بالجمهور، الذى يساندهم، يشعلون المكان حيوية، هيئة المهرج الملونة، وملابسه الواسعة، وأقنعته الساحرة، تلعب دورها فى تخفيف التوتر الذى يشعر به المشاهد فى كل فقرة.

«المهرج» هو الطفل العابث فى داخلنا، هو الحرية الكاملة التى لم نمارسها، لذلك نرفض أن يطرده المذيع، ونسعد أكثر عندما يرد ضربات العصا التى تلقاها، ذات يوم تمنيتُ أن أكتب موضوعا عن الفنانين الذين يقومون بدور المهرج، أردت أن أحكى عن يوم فى حياتهم، من الاستيقاظ حتى ليلة العرض، عن العالمين الواقعى والخيالى، وعن نهاية يومهم بعد ضحكات الأطفال، أردت اكتشاف الإنسان وراء المهرج.

يستحق فنانو السيرك كل عناية ورعاية، وكل اعتبار وتقدير أدبى ومادى، أعتقد أن ما شاهدتُه فى تلك الليلة ليس كل الفقرات، فهى تتغير وتتنوع كل فترة، وأظن أيضا أن هناك فقرات أخرى مع حيوانات أكثر، ومع لاعبى الترابيز ملوك الفضاء، أتمنى أيضا أن تؤسس مدرسة خاصة لفنون السيرك، وأن تنظم مهرجانات لعروضه، وأن تمنح الجوائز وشهادات التقدير، لاعب السيرك هو المصراوى الفنان الذى يمنح الناس متعة الشعور بقدرات الإنسان الهائلة، والذى يؤكد لهم فى كل ليلة أنهم قادرون على تحدى الخطر، وترويض الوحوش، ومشاطرة السعادة، مثلما يتشاطرون الأحزان.

صفقت طويلا لكم أيها الرائعون، أسعد الله كل أوقاتكم.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات