خلال متابعتى لجلسة «استراتيجية بناء الإنسان المصرى ضمن فاعليات المؤتمر الوطنى السادس للشباب، تذكرتُ قصةً حدثت لى فى مراهقتى ومنها تعلمت أول درس فى اقتصاديات التنمية. ففى تسعينيات القرن الماضى، كان المطرب عمرو دياب فى قمة نجوميته وكانت إطلالاته على أغلفة ألبوماته الفنية هى الأكثر تأثيرا على المراهقين فى كل ما يتعلق بالأناقة واختيارات الملابس وتصفيفات الشعر. وفى ريف مصر ــ حيث كنت أعيش وقتئذ ــ كان الأمر يحتاج وقتا طويلا لتصل تلك الموضات الجديدة إلى متاجر ومحال الملابس. ولأن حياكة (تفصيل) الملابس كانت لا تزال سائدةً فى ذلك الوقت فى الريف، فأذكر أننى أخذت مرةً صورة غلاف لألبوم عمرو دياب واشتريت قطعة قماش وذهبت لأحد الخياطين المهرة وطلبت منه أن يحيك لى قميصا مشابها ودفعت ثمنه مقدما. وعندما ذهبت فى الوقت المحدد لتسلّمه، كانت المفاجأة صادمةً، فلم يكن القميص يمتُّ بأى صلةٍ من قريبٍ أو بعيدٍ للصورة. وبعد شدٍ وجذبٍ مع الخياط كان رده الذى أنهى به النقاش أن «العيب فى القماشة»!. عند هذا الحد تنتهى القصة، ولكن لو أسقطنا أحداثها على سياق تنموى، فالشاهد منها أنه قد يكون لدينا مشروع تنموى ذو أهداف طموح (تقليد موضة عمرو دياب، فى قصتى)، وقد نتمكن من تدبير الموارد المالية والاستثمارات (دفع تكلفة القميص)، وقد تتوافر لدينا المؤسسات وخبراء الاقتصاد والتنمية (محل الخياطة والترزى)؛ ولكن هذه المقومات تبقى عوامل مساعدة للنجاح ولا يمكنها أن تضمن وحدها تحقيق أهداف التنمية، فكما رأينا فى القصة، لم تشفع هذه المكونات لتحقيق الهدف لأن العيب كان فى «القماشة» ذاتها.
فى هذا الصدد، نجد أن الأطر النظرية والتصورية للتنمية البشرية المستدامة تعتبر رأس المال البشرى أو «قماشة التنمية» هو العامل الأهم الذى يمكِّن الدول من تحقيق تنمية تستجيب لتحديات الحاضر وتلبى طموحات المستقبل وتوقعات الأجيال القادمة. ومن خلال التجارب الناجحة لدولٍ كسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية، تأصل لدى المنظمات الدولية والحكومات الوعى بأهمية ومحورية دور الإنسان فى إنجاح العمليات الإنمائية. لذلك، فقد تحول الخطاب التنموى فى العقود الأخيرة من التركيز على النمو الاقتصادى إلى الرفاهية الاجتماعية، ومن زيادة الدخول المادية إلى توسيع الإمكانات والحريات والخيارات المتاحة للبشر. ومن هنا.. أصبحت الصحة والتعليم والدخل ثلاثة مؤشرات رئيسية تقيس مستوى التنمية البشرية وتضمن صيانتها واستدامتها. فوفقا لدليل التنمية البشرية لمنظمة الأمم المتحدة «فالقدرات الأساسية الثلاث للتنمية البشرية هى أن يحيا الناس حياة مديدة وصحية، وأن يحظوا بالمعرفة، وأن يتمتعوا بمستوى لائق من المعيشة». فالتنمية البشرية المستدامة تتطلب إذن بناء القدرات البشرية من خلال التحسين المستمر فى الخدمات الصحية وجودة التعليم والارتقاء بمستويات المعيشة، ثم التوظيف الكفء لهذه الموارد البشرية بما يحقق تنمية ورفاهية المجتمع.
***
وحقيقةً، فهناك شواهد وتوجهات للحكومة مؤخرا لتحسين خامة «قماشة التنمية»، وخصوصا للشباب. فنذكر على سبيل المثال، تدشين البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة، وإنشاء الأكاديمية الوطنية للتدريب، إلى جانب ما تضمنته استراتيجية مصر 2030 من محاور عمل فيما يتعلق بالصحة والتعليم وتحسين الدخول. وعلى الرغم من ذلك، فواقع الإنفاق العام وتوزيع الاستثمارات الحكومية على القطاعات المرتبطة مباشرةً بالتنمية البشرية فى الموازنة العامة يجعلنا نقف أمام ملاحظات عدة حول مسألة بناء الإنسان المصرى كأولوية عمل للحكومة، بل ويطرح أسئلةً هامةً حول رؤية الحكومة ونظرتها لدور الدولة فى الرعاية الصحية والتعليمية وتحسين المستويات المعيشية للمواطنين كأدوات وأهداف لبرامجها التنموية.
ففيما يتعلق بمكون الدخل، نجد أن استراتيجية الحكومة للتعامل مع تفاقم عجز الموازنة والارتفاع الخطير فى معدلات الدين العام، والذى قد يصل إلى 5 تريليونات جنيه بنهاية 2018، تعتمد بشكل رئيس على فرض المزيد من الضرائب والتى من المتوقع أن تزيد بنسبة 22% مقارنة بالعام المالى الماضى لتشكل 78% من جملة الإيرادات العامة. وهذا يعنى تباعا توسيع نطاق الضرائب غير المباشرة التى يدفعها المواطنون الخاضعون لها بالنسبة نفسها. كذلك، فقد تضمنت الموازنة الجديدة خفضا ملحوظا فى دعم الكهرباء بنسبة 47% والمواد البترولية بنسبة 26%. وأمام هذه المؤشرات يصبح ما تستهدفه الحكومة من خفض معدل التضخم إلى 10% أمر غير منطقى، وتتضاءل فرص تحقيق أى تحسن معنوى فى مستوى دخول المواطنين فى الأجلين القصير والمتوسط، بل إننى أتصور أن يستمر الارتفاع فى تكاليف المعيشة بمعدلات أسرع من معدلات زيادة الدخول. فمن ناحية، هناك توقعات قوية بارتفاع الأسعار العالمية للبترول خلال العام المالى الجارى؛ ما يعنى بالنسبة لنا ــ كدولة لا تزال تعتمد بشكل كبير على الاستيراد فى تلبية الاستهلاك المحلى ــ المزيد من موجات التضخم. ومن ناحية أخرى، فإن السيولة الضخمة التى يتم باستمرار ضخها فى السوق المحلية استنادا إلى غطاء النقد الأجنبى الاحتياطى، والذى هو فى الأساس من حصيلة القروض الأجنبية، لا يقابلها زيادة فى الإنتاج الحقيقى بل يتم توجيهها إلى مشروعات منخفضة أو بطيئة العائد.
وفيما يتعلق بمكون الصحة، فإن الإنفاق العام على الصحة فى الموازنة يبلغ 98.7 مليار جنيه، أى نحو 1.8% من الناتج المحلى الإجمالى، وهو ما يقل كثيرا عن المتوسط العالمى، كما أنه لا يتماشى مع المعدل الذى أقره الدستور والذى تشير مادته الثامنة عشرة أن الدولة «تلتزم بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج المحلى الإجمالى تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية». علاوةً على ذلك، فإن مخصصات الأجور والحوافز والمكافآت تستحوذ على ثلثى هذه المخصصات فى حين يذهب الباقى إلى تغطية نفقات الرعاية الصحية للمرضى والمستلزمات الطبية وصيانة المبانى والأجهزة. وأمام هذه النسب المتدنية من الإنفاق العام على الصحة وعوار توزيعها، فلم يكن غريبا أن تحتل مصر المركز 166 عالميا فى مؤشرات الرعاية الصحية فى تقرير منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية الصادر فى يونيو الماضى، ولم يكن مستغربا أن يتدنى الإنفاق الصحى على الفرد فى مصر إلى 112 دولارا مقابل 2700 دولارا للفرد فى إسرائيل. وفى ضوء توقعات ارتفاع معدلات التضخم كما أشرنا، فإنه من المشروع أن نتساءل عن مدى قدرة هذا الإنفاق المتدنى على تحسين أجور العاملين بالقطاع الصحى ورفع جودة الرعاية الصحية للفقراء ومحدودى الدخل ليحيا الناس حياة مديدة وصحية.
وبالنسبة للتعليم، فقد حددت المادتان 19 و 21 عشرة من الدستور تخصيص نسبة لا تقل عن 4% من الناتج القومى للإنفاق على التعليم قبل الجامعى ونسبة لا تقل عن 2% من الناتج القومى للإنفاق على التعليم الجامعى تتصاعدان تدريجيا حتى تتفقا مع المعدلات العالمية. وتشير بيانات موازنة العام الحالى أن اعتمادات التعليم قد بلغت 159 مليار جنيه، شملت حوالى 108 مليارات جنيه للتعليم قبل الجامعى، وحوالى 51 مليار جنيه للتعليم الجامعى، وهى مخصصات تقل عن نصف النسب التى أقرها الدستور. وفى ضوء هذه المؤشرات تصبح نتيجة مؤشر جودة التعليم الصادر عن المنتدى الاقتصادى العالمى والتى أخرجت مصر من الترتيب العالمى للتعليم فى 2017، بعد أن كانت تحتل المركز 139 على مستوى العالم، من ضمن 140 دولة، فى 2016، نتيجةً متوقعةً ومفهومةً.
***
أخيرا، إن الجميع يعلم والكثير منا يقدر الظروف الاستثنائية التى يمر بها الاقتصاد المصرى، والتى قد تفسر تراجع مخصصات التنمية البشرية فى الموازنة العامة؛ ولكن أخشى ما أخشاه أن تكون هذه المخصصات عاكسةً لأولويات الحكومة ونظرتها لدور الدولة فى الرعاية الصحية والتعليمية وتحسين المستويات المعيشية للمواطنين. وفى رأيى، لو استمر تركيز الحكومة وانصبّت جهودها على تقليص عجز الموازنة من خلال رفع الدعم وفرض المزيد من الضرائب، بلا مراعاة لأبعاد التنمية البشرية؛ فنحن إذن أمام «إصلاح عجز موازنة» ولسنا أمام «إصلاح اقتصادى» حقيقى. ففاعلية الإصلاح الاقتصادى تتطلب تنمية رأس المال البشرى من خلال تحسين الخصائص الاقتصادية والاجتماعية وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية للمواطنين وإكسابهم القدرات والمهارات والإمكانات التى تساهم فى تحقيق أهداف الإصلاح الاقتصادى على المدى الطويل. ولذلك، فالجهود التنموية التى تركز على البنى الأساسية على حساب بناء الإنسان، الذى هو وسيلة التنمية وغايتها، تكاد تكون فرص نجاحها منعدمة، فبناء الإنسان يجب أن يكون دائما وأبدا قبل العمران.