تحية تقدير وإكبار واجبة لإعلامنا الأبلج الذى غطى لنا تغطية وافية أهم القضايا والأحداث المحيطة بنا والمؤثرة فى حياتنا.
تغطية رائعة لمأساة طلاق مطربة مشهورة وصدمتها التى جعلتها تحلق شعر رأسها، وتحليل سيكولوجى عميق للدوافع النفسية التى دفعتها لهذا السلوك، ثم إتاحة الفرصة لها لمشاركتها الفرحة ببنتيها الجميلتين الموهوبتين المتعلمتين أحسن تعليم فى أعلى المدارس التى جعلت منهن مثالا للتلميذ المصرى الذى صار عاجزا عن الحوار بلغة بلده ويجرى حواراته بإنجليزية شكسبيرية. شعرت بتفاؤل بمستقبل الأجيال القادمة وأنا أشاهد بنات فنانة نشأت فى حى شعبى، وكان جزء من جاذبيتها افتخارها بذلك، وقد خضعا لنظرية النشوء والارتقاء وارتفعا عن أقرانهم المصريين الذين يتحدثون بالعربية.
ثم انتقل الإعلام لتنويرنا بخبايا قصة طلاق ممثل عجوز يناهز الثمانين من زوجته التى لا نعلم ترتيبها فى قائمة زوجاته. وأخيرا انطلق الإعلام ليغطى قصة مشهد خلع نجمة محبوبة سروالها، ثم قام نزولا على قواعد المهنية والعدالة بتخصيص مساحات مساوية للمؤيدين والمعارضين، جهة تدافع عن حرية الفنان فى التعبير لخدمة الحبكة الدرامية والسيناريو وأخرى تدافع عن التقاليد والأصول، ثم تابعت وسائل الإعلام تداعيات القضية على الحياة الشخصية للنجمة فتارة تقول إن زوجها الفنان انتفض غضبا بسبب اللقطة ووصل بينهما الأمر إلى الطلاق وتارة يقولون إنه دافع عنها دفاعا مجيدا.
ولأن المساحة المتاحة على المنصات الإعلامية محددة بالكلمة والدقيقة فلا بد من وضع سلم للأولويات يتم من خلاله التركيز على القضايا الأكثر حيوية المؤثرة على حياتنا وعلى مستقبلنا، ويكون ذلك على حساب قضايا هامشية التى لا تكاد تؤثر علينا ولا تستحق أن نبذل الجهد من أجل تغطيتها.
فشكرا لإعلامنا العتيد الذى نقل لنا بكل موضوعية وحيادية الأحداث الجسام، بحيث أغنانا عن استقاء المعلومات من منابر إعلامية أجنبية غير موثوق بها قد تتسلل إلى وعينا وعقولنا وتؤثر تأثيرا سلبيا على قيمنا وأخلاقنا وتوجهاتنا. ومن أجل سد الخانة والتعريف ببعض الأخبار غير المهمة التى لم تنل من التغطية إلا ما تستحقه من هامشية، سطور قليلة دون تحليل أو تمحيص أو شرح.
• • •
من هذه الأخبار المهملة خبر إطلاق التليسكوب الفضائى جيمس ويب يوم 24 ديسمبر الماضى ليتخذ مدارا ثابتا على مسافة مليون ونصف مليون كيلومتر من الأرض فى نقطة لانجريه الثانية تحافظ على الأرض والقمر بين التليسكوب وبين الشمس لتحميه من حرارتها حتى لا تشوش على قدرته على رصد الموجات تحت الحمراء مع تزويده بدرع حرارى لا يتجاوز سمكه أجزاء من الألف من المليمتر وجهاز تبريد يحافظ على حرارة التليسكوب عن 253 درجة تحت الصفر. ويهدف التليسكوب إلى رصد ما يحدث فى الكون على مسافة 13.5 بليون سنة ضوئية.
أهملت وسائل إعلامنا هذا الخبر لتحمى عقولنا من سفه الفرنجة الذين ينفقون عشرة بلايين دولار من أجل التلصص على ما يحدث على مسافة 13.5 بليون سنة ضوئية.
أما المغامرة الثانية التى بددت فيها الولايات المتحدة أموالا طائلة بلغت 3.8 بليون دولار فهى مسبار باركر الشمسى الذى انطلق من قاعدة كيب كانا فيرال يوم 12 أغسطس 2018 ليقطع مسافة 93 مليون ميل يصل إلى هالة الشمس فى بداية عام 2022 لتكون أول مركبة من صنع الإنسان تقترب من الشمس، ولذا كان لابد من بنائها من ألياف كربونية مركبة لتحتمل درجات حرارة هائلة وتحتمل رياح العواصف الشمسية. ما هذا السفه؟ ما حاجتنا للاقتراب من الشمس ونحن نتقى إشاعاتها فوق البنفسجية بالمراهم الواقية على البلاجات وترتعد فرق من اتساع ثقب الأوزون الذى يحمينا من إشاعات جاما القاتلة. ما الذى نستفيده من دراسة العواصف الشمسية بدلا من دراسة نوات الشتاء فى الإسكندرية أو دراسة البقع الشمسية بدلا من إيجاد علاج للبقع الداكنة على بشرة النساء.
أما ثالثه الأثافى فكانت الأموال والإمكانات التى أهدرت من أجل تمكين الجراح الأمريكى Bartley Griffith يعاونه الطبيب الباكستانى محمد محيى الدين من نقل قلب خنزير مهندس وراثيا بجينات بشرية حتى لا يلفظه جهاز المناعة البشرية إلى مريض يحتضر بعد أن تلف قلبه. ما حاجتنا إلى هذه الجراحة وماذا سينجم عنها سوى جدال حامى بين من يرون أن هذه الجراحة حرام لأن الخنزير مدنس وغير نظيف من جانب، وبين جانب آخر ممن يخشون على نقاء الجنس البشرى ويتساءلون عن نسبة الخنزير التى تدخل جسم الإنسان قبل أن يتحول لحمه إلى جمبون ومورتاديللا تصلح للسندويتشات.
• • •
فى حديث مع صديق عزيز أعرب لى عن إحباطه لاختفاء الإعلام العلمى من حياتنا، فلا صفحة علمية ثابتة فى الصحف ولا مجلات علمية ولا قنوات تلفزيونية علمية مثل قناة ديسكفرى أو ناشيونال جيوغرافيك، حتى برامج المسابقات يمكن أن تكون وسيلة فعالة لنشر العلم ودفع الشباب إلى البحث إذا كانت تطرح أسئلة عن أقمار المشترى أو الفرق بين الـDNA والـRNA أو الفرق بين الـBoson والـNeutrino بدلا من أسئلة عن اسم مصمم أزياء المطربة الفلانية وأزواج الممثلة العلانية السابقين.
نظرت نظرة رثاء إلى صديقى وقلت له لا تعرف أن وسائل الإعلام تعتمد على الرعاة والممولين والإعلانات الذين يقدمون بسخاء للبرامج ذات المشاهدة العالمية، فمن الذى سيترك برنامجا يستضيف مطربا من مطربين المهرجانات ليشاهد برنامجا يتحدث عن عالم الفيزياء الفذ ستيفان هوكينج ومن سيترك برنامجا تتحدث فيه خبيرة فى الماكياج وتصفيف الشعر تصف للنساء كيف تعتنى بنفسك لتكونى فى جمال القمر ليشاهد برنامجا عن أقمار المشترى.
احتد علىَّ وسألنى، وهل تترك الحال على ما هو عليه أم نعمل لجذب الشباب إلى عالم العلم والتكنولوجيا المبهر الذى يمكن تقديمه بحرفية وبجاذبية ليجذب المشاهدين والمشاهدات، وبالتالى يجذب الرعاة والممولين وهو أمر نجحت فيه قنوات ومنشورات ناشيونال جيوغرافيك، وقال وهو يغادرنى بازدراء: «للأسف فإن ما نحن فيه يلخصه ببلاغة شديدة إعلان لشركة تعلن عن منتجها بصوت شاب يهتف بحماس شديدة «الولا حاجة هو كل حاجة»!! إعلان طرحته الشركة للترويج لسلعتها دون أن تدرى ما فى هذه العبارة من عبثية وعدمية، أو لعلها تدرى.