هذا نوع خاص من القضاء العام يتميز بصلاحيته للتصدى لكبار المسئولين فى الدولة فيما يخص أى نزاع بينهم وبين المواطنين. ولعل هذا القضاء سبق إسناده لقاضى القضاة أو لقاضى مخصوص يسمى قاضى المظالم. حيث أن ذوى السلطة فى أى بلد يصنعون حول أنفسهم أسوارا عالية من الحراسات والتشريفات، بل وربما يصدرون أوامر بعدم جواز مقاضاتهم، أو عدم حضورهم جلسات القضاء. ولشديد الأسف، فإن بعض الدساتير تستثنى الملوك والرؤساء من المسئولية والمحاكمة، وأيضا قد تنص بعض الدساتير على جواز محاكمة الوزراء وعلى إنشاء محكمة لذلك، ثم يبقى الدستور خاملا إما بعدم إصدار قانون محاكمة الوزراء أو بعدم إصدار قانون إنشاء المحكمة أو عدم إصدار قانون بتشكيلها، وكل ذلك يمثل بقعا فى ثوب العدالة الناجزة.
ــ1ــ
كان الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يتولون بأنفسهم قضاء المظالم ومحاكمة المسئولين. ونؤكد هنا أن تولى النبى بنفسه لعمل ما لا يبيح ولا يتيح القياس عليه لأن ذلك القياس يجىء مخالفا لأن الأنبياء موجهون بالوحى يأمرهم ويتابعهم. أما غير الأنبياء سواء من الخلفاء أو الأمراء أو الولاة أو الملوك والرؤساء، فكل هؤلاء لا وحى معهم ولا مراجع لهم. لذلك فلا يجوز تولى الحكام قضاء المظالم، ونؤكد ذلك بالدليل العقلى.. فإذا أخطأ الحاكم وجار على حقوق غيره، فهل يلجأ المواطن إلى الحاكم يشتكيه لنفسه؟!! لهذا يجب استقلال قضاء المظالم عن أشخاص الحكام. ويتميز قضاء المظالم عن أشخاص الحكام. ويتميز قضاء المظالم بميزة أخرى وهى سرعة الإجراءات وضمان تنفيذ الحكم فور صدوره.
ــ 2 ــ
ونتبرك جميعا هنا بذكر شىء من قضاء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الخاص بخطأ كبار المسئولين وسرعة تأديبهم. فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل (استخدم) رجلا لجمع الزكاة يسمى «ابن اللتبية»، فلما عاد الرجل من المهمة كان معه ما جمع من الأموال، ومعه كمية أخرى من الأموال، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟» فقال الرجل: «هذا لكم (وأشار على الأموال الكبيرة)، وهذا (المقدار الآخر) أهدى إلى» حينئذ غضب الرسول وصعد إلى المنبر قائلا: «ما بال الرجل نستعمله على عملنا (عمل الدولة) ، فيعود إلينا يقول: «هذا لكم وهذا أهدى إلى، فهلا جلس الرجل فى بيت أبيه وأمه وينتظر أيهدى الناس له أم لا؟!!».
نعم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الهدايا يتم تبادلها بين الأقارب والمعارف، فمتى تعرف هذا الرجل على الموردين حتى يهدون له هدايا؟ فهى ليست هدايا ولكنها رشوة مقنعة يجب الحذر منها واختيار إما البعد عنها وإما تسليمها لبيت المال. وقد فعل عمر بن الخطاب مثل ذلك.
ــ 3 ــ
كذلك فمن نماذج محاكمة المسئولين ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. فقد سمع الصحابة قول سعد بن عبادة يوم الفتح يقول: «اليوم يوم الملحمة ». أى إنه يوم إهلاك قريش وتأديبها وتقطيع لحومهم... فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سعد بن عبادة أمير قومه «الخزرج»، وكان الرسول قد أعطاه راية الخزرج فقال قولته السابقة، وعلى الرغم من أن قريش حتى تلك الساعة كانت على كفرها إلا أن الصحابة أدركوا خطأ سعد لأن الإسلام لا يعرف الانتقام والتربص. وهنا سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم باستدعاء سعد بن عبادة وأصدر قرارا ونفذه فورا بأخذ الراية من يد سعد ثم سلمها لابنه قيس بن سعد بن عبادة. فرأى الجميع خطأ سعد ورأى الجميع معاقبة سعد وعقابه وسرعة التنفيذ، ثم كان إعطاء الراية لابنه قيس نوعا من الترضية لسعد لأن للرجل سوابق عظيمة فيكفى تأديبه ويستحب ترضيته.
ــ 4 ــ
هكذا نحن ــ أمة المسلمين ــ بحاجة إلى تنظيم قضاء المظالم وإعلاء شأنه. وإذا كان لنا حق الاقتراح المبدئى فى هذا الشأن فيجب تشكيل المجلس التأسيسى ليدوان المظالم من: 1ــ رئيس محكمة النقض والرؤساء السابقون 2 ــ رئيس مجلس الدولة والرؤساء السابقون 3 ــ رئيس المحكمة الدستورية والرؤساء السابقون 4 ــ رئيس هيئة قضايا الدولة والرؤساء السابقون فإذا لم يصل العدد إلى 30 عضوا استدعى أقدم نواب هذه الهيئات 5 ــ رؤساء الاستئناف الحاليون 6ــ أقدم عشرة رؤساء لأقسام القانون الدستورى والإدارى بالجامعات المصرية الكبرى. ويقوم هذا المجلس بوضع مشروع قانون ديوان المظالم ولوائحه وإجراءاته بالشكل الذى يحقق الاطمئنان والثقة.