محطات صينية في طريق نهاية الفقر - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محطات صينية في طريق نهاية الفقر

نشر فى : الإثنين 26 ديسمبر 2022 - 6:50 م | آخر تحديث : الإثنين 26 ديسمبر 2022 - 6:50 م
فى كتابه الفريد «نهاية الفقر» الذى تناولناه بالتحليل فى مقال سابق بالشروق فى 24 يوليو من عام 2017، يحدثنا «جيفرى ساكس» عن تواريخ فاصلة فى حياة الصين، تحولت خلالها من دولة رائدة للتكنولوجيا فى العالم، إلى دولة فقيرة مضطربة، ثم إلى قصة نجاح ونمو ليس لها نظير فى العصر الحديث.
تلك التواريخ هى سنوات: 1434، 1839، 1898، 1937، 1949، 1978. فى بداية القرن السادس عشر كانت الصين هى القوى العظمى فى التكنولوجيا على مستوى العالم كله، وذلك فى أعقاب اكتشاف «كولومبوس» للطريق البحرى إلى الأمريكتين، ودوران «فاسكو دى جاما» برأس الرجاء الصالح للوصول إلى آسيا عن طريق البحر، وكان ذلك على مدى ألف عام تقريبا. وقد غزت أوروبا آسيا بعد عدة قرون باستخدام مقومات حضارية تسببت فيها الاختراعات الصينية فى الأساس، مثل البوصلة والبارود والصحف.
• • •
فى البداية كان العام 1434 عاما مفصليا فى تاريخ الإمبراطورية الصينية، ففيه قرر الإمبراطور «مينج» إغلاق عملية التجارة الدولية والاستكشاف بالنسبة للصين، وقام بتفكيك أكبر وأفضل أسطول فى العالم آنذاك من سفن المحيط! ومنذ ذلك التاريخ حرمت الصين من ريادتها فى مجال الإنشاءات البحرية والملاحة، أو قيادة البحار فى المنطقة المجاورة. وقد لاحظ آدم سميث» فى كتابه «ثروة الأمم» أن الصين دولة غنية، لكنها ثابتة لا تتحرّك لأن مواردها تستنفد داخلها بالكامل ولا تهتم بالتجارة الخارجية.
ثم جاء العام 1839 لتنهى خلاله الصين عزلتها الاقتصادية ولكن بطرق مؤلمة. فقد تعرّضت الصين لهجوم من بريطانيا من أجل تعزيز الاتجار بالمخدرات، ونشبت أولى «حروب الأفيون» خلال الفترة من 1839 إلى 1842 لإجبار الصين على الانفتاح فى تلك التجارة!. وقد أصرت بريطانيا على موافقة الصين (بسوقها الاستهلاكية الكبيرة) على استيراد الأفيون الذى يتم إنتاجه فى الهند باستثمارات بريطانية.
أما العام 1898 فقد كان عام الفرصة الضائعة، حيث تحرّكت خلاله طائفة من الشباب الصينى الإصلاحى المتأثرين بالنهضة اليابانية، وبنجاح التحول الرأسمالى والتصنيعى فى اليابان، لتدشين برنامج مائة يوم من الإصلاحات الجذرية فى الصين. لكن الإمبراطورة المنتمية لسلالة «تشينج» الآفلة، تقمع تلك الحركة وتعتقل الإصلاحيين وتقتل معظمهم، إلا من لاذ منهم بالفرار إلى اليابان. وقد كان عنف الدولة فى ذلك الموقف بمثابة تهديد عنيف وتثبيط لكل فرص ومحاولات الإصلاح الاقتصادى اللاحقة، التى دفعت الصين ثمنا غاليا لتأخرها.
وبحلول عشية الثورة عام 1911 كانت شرعية وأموال النظام الصينى قد نفدت، وضعفت مقاومته للضغوط الغربية أو اليابانية، وتحوّلت شنجهاى إلى مدينة صناعية بالفعل، وعزز من نجاحها تفوّق صادراتها من المنسوجات. لكن انهيار سلالة «تشينج» لم يكن يضمن نجاح أهداف الثورة، إذ فشلت الأخيرة فى تحقيق الوحدة السياسية والإصلاحات الاقتصادية التى كان يأملها الثوار. ولم يحل عام 1916 إلا وقد سقطت الصين ضحية للاضطرابات المدنية والفوضى السياسية والانقسامات العسكرية والتدهور الاقتصادى.
وقد قدّرت نسبة دخل الفرد فى الصين بنحو 22% من دخل نظيره فى المملكة المتحدة عام 1850 و14% عام 1900 و19% عام 1930. وذلك بالمقارنة بنسبة دخل الفرد فى اليابان إلى نظيره فى المملكة المتحدة والتى قدّرت بنحو 31% عام 1850 و25% عام 1900 ثم قفزت إلى 42% عام 1930. وفى عام 1937 تعرّضت الصين لغزو عسكرى من قبل جارتها اللدود، وأعقب الغزو حرب أهلية مدمرة، انتصر فى نهايتها القوات الشيوعية بقيادة «ماو تسى تونج»، وفى عام 1949 تأسست جمهورية الصين الشعبية.
وقد قاد «ماو» ما عرف بالقفزة الكبرى إلى الأمام بين عامى 1958 و1961 والثورة الثقافية بين عامى 1966 و1976، ولكن «ساكس» يصف هذين المشروعين بالكارثة. فقد رأى أن القفزة إلى الأمام مخطط جنونى من «ماو» لتسريع التصنيع، من خلال ما يسمى بالفناء الخلفى لمصانع الصلب. وقد أمر المزارعين فى أنحاء البلاد بالتوقف عن الزراعة للبدء فى إنتاج الصلب فى مصانع صغيرة محدودة القدرات والكفاءة بشكل بائس. وقد انتشرت المجاعات على خلفية تلك السياسة، وساهم الإغلاق والقمع فى حجب المعلومات عن قيادة الدولة، حتى زهقت أرواح عشرات الملايين.
ثم جاءت الثورة الثقافية عام 1966 كمحاولة للسيطرة على المجتمع من قبل نظام «ماو» ودامت لعقد من الزمان، كانت محصلته: تعطيل تعليم الشباب، وانتحار وتشريد الكثيرين، وتدمير سبل العيش، وانزواء العلماء فى الريف، واستمرت تلك التداعيات حتى وفاة «ماو» والقبض على عصابة الأربعة عام 1976. ثم تولّى «تنج هسياو بينج» سدة الحكم فى عام 1978 والذى يسطر تاريخا اقتصاديا وانفتاحا عظيما لدولة الصين.
منذ عام 1978 كانت الصين الاقتصاد الأسرع تقدما فى العالم، بمعدلات نمو تدور فى المتوسط حول 8% سنويا، بما ضاعف من متوسط دخل الفرد كل تسع سنوات (أى نحو ثمانية أضعاف حتى عام 2003). وقد عاش نحو 64% من سكان الصين بأقل من دولار واحد يوميا عام 1981، لكن تلك النسبة انخفضت إلى 17% فقط عام 2001 (وفقا لكتاب نهاية الفقر).
• • •
يقارن «ساكس» بين زيارته للصين عام 1981 حيث كانت الدولة حديثة عهد بحكم «تنج» وما زالت متأثرة بتراث الماويين والمتمثل فى وحدة الملابس، واختفاء السيارات الشخصية، وغرق الشوارع فى بحر من الدراجات الهوائية.. وبين زيارة تالية فى عام 1992 تبدّلت خلالها الصين بشكل مذهل، حيث قاد عملية التغيير والتحوّل الاقتصادى مجموعة من الشباب الصينيين الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة. وقد تهيأت لهم أسباب النجاة من الثورة الماوية الثقافية، وتلقوا تعليما غربيا جيدا، ثم عادوا إلى الصين وأسسوا جمعية الاقتصاديين الصينيين، وساهموا بشكل فعّال فى صناعة نهضة اقتصادية حقيقية لبلادهم، على الرغم من نظرة التشكك التى كانت تشيّعهم فى مجتمع مغلق مرتاب، اعتاد التشكك والكراهية لكل ما هو خارجى أو تطوّر خارج حدود الصين.
وعليه يعتقد «ساكس» أن العمل الصينى على مدى الساعة للمحافظة على معدلات نمو مرتفعة، ما هو إلا محاولة جادة من الشعب الصينى لتعويض 550 سنة من الوقت المهدر والفرص الضائعة. وإذا كانت التنمية الاقتصادية الصينية الحديثة قد تأسست على عناصر للقوة قوامها مئات الملايين من العمالة منخفضة التكاليف، وتكنولوجيا حديثة تم توفيرها من الخارج، ورأسمال مناسب، وبيئة تجارية آمنة وصحية.. فقد بدأ الإصلاح المؤسسى الجاد للمؤسسات الحكومية، التى اتبعت الدولة سياسة متدرجة فى إصلاحها دون خصخصة أو تسريح واسع للعمال (حتى عام 1990 الذى بدأت معه موجة جادة من الإصلاح ارتفعت معها البطالة فى الحضر مع تخفيض عدد العاملين فى مؤسسات الدولة). وقد اتسم نمط الإصلاح الاقتصادى الصينى بالتشدد فى الإصلاحات الريفية، والانفتاح السريع على التجارة، والإصلاح المتدرج فى مؤسسات الدولة.
وقد اعترض طريق المعجزة الصينية عدد من التحديات الكبرى أبرزها: تفاوت النمو بين شمال الصين وجنوبها، بسبب الجفاف النسبى للشمال. كذلك، فإن تحديد دور الدولة فى التنمية الاجتماعية وحماية البيئة فى إطار الإصلاحات السوقية يعد من أبرز التحديات. أما التحدى الثالث، فيتمثل فى ضرورات ومتطلبات الإصلاح السياسى، ولدى الصين تاريخ طويل (قرابة العشرين ألف سنة) من الدولة الموّحدة، التى قادتها حكومة مركزية (باستثناء فترات ضعف وترهّل محدودة). وهو رصيد كبير من الإنجاز، يمكن أن تؤسس عليه جميع الإصلاحات المناسبة لطبيعة المجتمع الصينى، والمحققة لأحلام الدولة فى النمو، دون انتقاص من حق المواطن فى تساقط ثمار النمو بصورة عادلة وفعّالة، مع تحقق الرقابة الشعبية الناجعة، والوصول إلى دولة الرفاهية التى يحلم بها الإنسان المعاصر، التى قد تتباين مع النسخة النمطية للحلم الأمريكى أو الغربى.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات