تأملات فى الحرية - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 6:11 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تأملات فى الحرية

نشر فى : الخميس 6 يناير 2022 - 7:55 م | آخر تحديث : الخميس 6 يناير 2022 - 7:55 م
لعل الحرية هى أسمى وأعز القيم عند الإنسان المتحضر، تغنينا بها ونظمنا لها الأشعار واستلهمها الفنانون فى أعمالهم. أقامت لها الولايات المتحدة تمثالا بارتفاع ثلاثة وتسعين مترا، وكانت مع الإخاء والمساواة الصيحة التى أطلقتها فرنسا شعارا لثورتها. وسادت قناعة راسخة بأن الحضارة والمدنية مرادفتان للحرية، وبلغ سمو قيمة الحرية درجة تكاد تصل إلى القدسية. كان ذلك سببا فى إغفال التروى والتدبر فى حقيقة كينونتها، فقدس الأمريكان تمثال الحرية وكأنه طوطم يكادون أن ينحنوا أمامه، لم يثنهم ذلك عن إبادة الهنود الحمر واستعباد الزنوج والتنكيل بالصينيين الذين جلبوا لمد السكة الحديد عبر القارة. ولم يمنع شعار الثورة فرنسا عن التنكيل بسكان مستعمراتها فى الجزائر وإفريقيا وفيتنام، واستثنت بريطانيا فى مفهومها عن الحرية والديمقراطية النساء ومن لا يملك حيازة زراعية أو عقارية تتيح له حق التصويت فى الانتخابات فضلا عن ازدرائها لسكان مستعمراتها.
بدأت شعلة الحرية تشتعل بين الشعوب للتحرر من المستعمر، وكان من شراراتها الأولى ثورتى القاهرة الأولى والثانية ضد حملة نابليون الاستعمارية فى آخر سنتين من القرن الثامن عشر، وفى العشرينيات من القرن التاسع عشر هبت شعوب أمريكا اللاتينية للتحرر من الاستعمار الإسبانى، ومع أفول القرن التاسع عشر كانت ثورة المهدى على الاستعمار البريطانى وثورة عرابى فى مصر. وبحلول الستينيات من القرن العشرين لفظ الاستعمار أنفاسه الأخيرة باستقلال الهند عام 1949 تلاها استقلال إندونيسيا والملايو وفيتنام وكوريا والبلاد الآسيوية التى سقطت فريسة للاستعمار اليابانى. ثم انتقلت الشعلة إلى إفريقيا، فتحررت مصر وليبيا والجزائر ثم كينيا والسنغال وباقى المستعمرات الإفريقية، وأخيرا سقطت الأنظمة العنصرية فى جنوب إفريقيا وناميبيا وروديسيا وكان شعار الحرية هو الشعار الذى تجمع حوله الثوار وحقق الاستقلال للمستعمرات. ولكن هل تحققت الحرية؟ وهل حال المواطن فى الكونغو تحت حكم موبوتو أفضل من حاله تحت حكم الاستعمار؟ وهل ذاق المواطن الكمبودى طعم الحرية تحت حكم بول بوت التى حرم منها تحت حكم فرنسا؟ وهل ارتقى المواطن الأوغندى تحت حكم عيدى أمين عن حاله تحت حكم الإنجليز؟ رغم ذلك، فإن ما تحقق فى القرن العشرين كان خطوة عملاقة فى طريق الحرية، ومازالت المستعمرات السابقة تعمل على تصحيح المسار واستكمال المسيرة فتخلصت من الطغاة ووضعوا أقدامهم على أول الطريق الصحيح.
•••
دخل علينا القرن الواحد والعشرون واستقبلت الإمبريالية القرن الجديد بفكر جديد، فلم يعد الهدف استعمار الأرض واستعباد البشر، بل صار الهدف هو احتلال العقل وإيهام البشر أنهم مخلصوهم من طغيان الأوطان والأديان والقيم والأخلاق والتقاليد، ليتمردوا عليها جميعا! لم تعد أسلحة الاستعمار هى الأساطيل والمدافع والدبابات والطائرات، لكنها غدت قنوات التليفزيون الفضائية والسينما العالمية والمدارس الدولية ومنظمى الحفلات ومصممى الأزياء ووكالات الدعاية والإعلام والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدنى. عملت كل هذه الدوائر على احتلال العقول وتقديم نموذج للإنسان الحديث لا تحكمه أى اعتبارات سامية بل يكون أداة طيعة فى يد الثقافة الاستهلاكية.
ولعل هذا الفكر الخبيث وجد أرضية ممهدة وجاهزة لاستقبال البذرة الخبيثة بسبب ضجر الناس من الضوابط الاجتماعية الصارمة التى حكمت المجتمع الأوروبى والتى بلغت أوجها فى العصر الفيكتورى فى بريطانيا وجمدت أى إمكانية للمرونة الاجتماعية وحكمت تصرفات البشر حتى فى المظهريات، فكانت المؤسسات تمنع العمال من ارتداء الـBowlar Hat لأنها تخص الموظفين، ويمنع دخول سباق الدربى إلا للابسى الـDerby hat فى زمن المدارس الخاصة والنوادى الخاصة التى تحدد المكانة الاجتماعية وحتى التشكيلات العسكرية، حيث اقتصرت وحدات مثل Cold Stream guards بأبناء الصفوة من الطبقات العليا البريطانية.
صحيح أنه حتى فى هذا الزمن كان هناك متمردون على هذه الأوضاع، تحدوا التقاليد والأعراف مثل الشاعر الكبير اللورد بايرون والكاتب أوسكار وايلد اللذين عاشا حياة مليئة بالمجون والفجور فى بريطانيا كما عاشت فى فرنسا Amantin Lucile Dupin التى تخلت عن اسمها النسائى وكتبت تحت اسم George Sand وجاءت وارتادت الحانات ومنتديات الرجال إلا أنهم ظلوا شواذَّ عن المألوف. الهزة الكبرى كانت مع الحرب العالمية الأولى حيث شعرت الجموع بأن النخبة قادتهم إلى الهاوية وتمرد جنود المشاة البسطاء على اعتبارهم مجرد وقود للمدافع Gun Fodder رغم أنهم قاموا ببطولات تفوق نظراءهم الأرستقراطيين وتغيرت التركيبة الاجتماعية فى أوروبا بسبب إفلاس الكثير من الأسر الأرستقراطية وثراء العديد من المضاربين من الطبقات الدنيا. وصارت الحرب هى العلامة الفارقة بين العصر الأوروبى والعصر الأمريكى، وحل الفوكس تروت والشارلستون وحلت موسيقى الجاز محل الموسيقى السيمفونية وحل الجينز محل السموكنج، ساعدت السينما التى سيطرت عليها هوليوود منذ بدايتها على نشر النمط الأمريكى فى الحياة ثم كانت الحرب العالمية الثانية فكرست النموذج الأمريكى خاصة مع شيوع التلفزيون رغم أنه اختراع بريطانى، إلا أن الولايات المتحدة سيطرت عليه. ثم كانت حقبة الستينيات الحرب الثالثة التى قوضت حائط التقاليد تماما وهى حرب فيتنام التى أدت إلى تمرد الشباب ضد المؤسسة المسيطرة AntiــEstablishment وزكى التمرد دور التلفزيون والإعلام فى نقل فظائع الحرب إلى كل بين فى الولايات المتحدة ونشأت فى هذه الأجواء حركة الهيبيز Hippies التى كانت طفرة من رفض الحرب لتكون رفضا لكل القيم وكل التقاليد ودعوة مفتوحة للفجور. وتكرس ذلك فى مهرجان Woodstock الموسيقى الذى حضره نصف مليون شخص فى أغسطس 1969 والذى تحول إلى نقطة انطلاق فى الزمان والمكان للفجور، ووقعت فيه كل الموبقات الجنسية وتعاطى المخدرات واشتهر من خلاله عقار الهلوسة LSD.
***
تطور هام آخر حدث على الجانب الآخر من الأطلسى عندما قدمت مصممة الأزياء البريطانية Mary Quunt المينى جيب التى انتشرت انتشارا هائلا فى جميع أنحاء العالم وأثارت التساؤل هل أفخاذ النساء خصوصية تغطى أم أنها مثل أفخاذ الضآن تعرض فى الفترينات! ولقد حصلت مارى كوانت على وسام الإمبراطورية البريطانية OBE مكافأة لها على ما قدمته! وتزامن ذلك مع ظهور حبوب منع الحمل ووسائل تحديد النسل الحديثة التى لم تستخدم فى منع الانفجار السكانى الذى بات يهدد البشرية بقدر استخدامه فى تأمين المنخرطين فى علاقات جنسية غير شرعية من عواقب هذه العلاقة. وصاحب ذلك إباحة الإجهاض بدعوى حرية المرأة فى جسدها دون أن يجدوا غضاضة فى قتل الجنين فى الوقت الذى حرموا فيه حكم الإعدام فى حق مجرم وقاتل أثيم.
ظهر أيضا فى هذا التوقيت أعمال أكاديمية جادة مثل كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» الذى يروج لمقولة أن التاريخ قد بلغ أوجه وآخر مداه بإنجازات الحضارة الغربية ولا يمكن تحقيق الأكثر ومن ثم يكون التاريخ قد وصل إلى نهايته. كتاب صمويل هنتنجتون «صراع الحضارات» والذى يعنى أن من رفض حضارة الغرب سيصطدم بها ويكون خاسرا. ثم أخيرا الدعوة إلى العولمة التى تروج لإذابة كل الفوارق ووضع قيم وأخلاقيات مشتركة للجميع وإلغاء خصوصية المجتمعات والترويج بأن كل شىء مباح ومقبول وأن الحرية المطلقة هى الهدف الأسمى وأن قمة التحدث والتحضر هو فى إطلاق الحرية بلا حدود وهى مقولة مردود عليها بأنه لو كان الأمر كذلك لكان إنسان نياندرثال ورجل الكهف هو أرقى إنسان لأنه كان قادرا على سحب الأنثى التى تروقه من شعرها ويحملها إلى كهفه ويقتل من يعترضه ويسير عاريا فى الغابة دون ضوابط. لقد جيش لدعم هذه المفاهيم جيوشا جرارة من الإعلاميين وغيرهم لإقناعنا لأننا مقهورون إذا لم نرفع أعلام الراينبو ولم نجهر بإلحادنا ونتجرد من ثيابنا وقبلنا العلاقات المثلية وتخلينا عن تقاليدنا وديننا ولساننا ولغتنا.
لقد تعرضت مصر على مدى تاريخها إلى العديد من الغزوات لكننا حافظنا على هويتنا بل إننا أثرنا على الغزاة أكثر من تأثرنا بهم، ففى أوج عظمة الإمبراطورية الرومانية كان هناك معبد لإيزيس فى روما وساد الأثاث الامبير المستوحى من الطراز الفرعونى فرنسا عقب حملة نابليون على مصر. لقد ضممنا الصفوف للدفاع عن أرضنا ضد المستعمر؛ هكسوسيًّا كان أو رومانيًّا أو فرنسيًا أو بريطانيًا، فلنضم الصفوف للدفاع عن قيمنا وهويتنا وديننا إسلامى ومسيحى من الهجمة الجديدة التى تهدف إلى احتلال عقولنا ووجداننا ونحذر من حصان طروادة المتنكر فى شكل الحرية الزائفة والذى يحمل فى جوفه الخراب والدمار.
محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات